اخر الاخبار

من أكثر انماط الشعر الشعبي العراقي اهتماما من الباحثين والقراء هو “الدارمي” ذلك الفن الأصيل الذي عبر عن خلجات النفس الانسانية، وقدم صورة واضحة عن طبيعة المجتمع العراقي، وأبرز بشكل واضح هموم المرأة ومعاناتها وما يعتلج في داخلها من أحاسيس على مر العصور.

والدارمي في بداياته شعر نسائي بحت، تفردت المرأة العراقية بتناوله، وأبدعت فيه وبرزت نماذج منه لا زالت راسخة في الذهنية العراقية، وأقحم الرجل نفسه في هذا الجانب لما حظي به من اهتمام وعناية من الشعب، وأخذ مديات ابعد من خلال الخوض في مجالات الحياة المختلفة. فكان أداة للتعبير عن الهم الذاتي والاجتماعي والسياسي حتى أخذ مكانه في كافة مناحي الحياة ولم يعد مقصورا على التعبير عن هموم المرأة وانفعالاتها وما تعانيه في مجتمعها.

وصدر العديد من الدراسات والبحوث التي تناولت هذا الفن الشعري، وعنيت بدراسة جوانبه المختلفة، اضافة لما جمع من نصوصه الفولكلورية في كتب ودراسات. ولو أردنا استعراض هذه الكتب لضاق بنا المجال.

دراسة استشرافية

آخر ما صدر عنه كتاب للاستاذ د. هاشم العقابي، حمل عنوان “غزل العراقيات.. دراسة في أصل الدارمي”، وذلك عن “دار نابو البغدادية” 2022. وامتاز هذا الكتاب عن غيره بمناقشة مستفيضة هي أقرب الى الدراسة الاستشرافية لما فيها من مراجعات للآراء التي طرحت حول اوزانه وتسمياته وموجبات قوله وما فيه من تطلعات وتوجهات وأغراض. فقد وجد المؤلف ان الباحثين في هذا الفن الشعري ذهبوا مذاهب شتى في تسمياته ، وجاءوا بآراء مختلفة ابتعد الكثير منها عن الحقيقة. إذ قيل أنه سمي بالدارمي نسبة الى قبيلة بني دارم، أو من الدردمة أو اقتداء بقول الاعشى “يا دارمية”. وهناك من اطلق عليه “غزل البنات” أو النثر أو الموشح أو البستة أو الدارمي الى غير ذلك من الاسماء والمسميات، في الوقت الذي لم يعرف على المستوى الشعبي بغير اسم الدارمي الذي اصبح عنوانا وميسما له، رغم أن الاستاذ العقابي لم يبتعد عن الاسم الشائع غزل البنات الذي خصه بالعراقيات وهو ما ذهبت اليه في كتابي (الدارمي أو غزل البنات) وبذلك توافقت واياه على هذه التسمية.

معاناة المرأة

وأرى أن اطلاق تسمية الغزل عليه قريبة من الواقع رغم انه تناول الى جانب الحب معاناة المرأة وما واجهت في حياتها من آلام ومضايقات. فنجد الشكوى المرة من واقعها الاجتماعي وما لحقها من حيف جراء الممارسات والعادات الضارة التي درج عليها المجتمع. ففي قضية الزواج ورفض المرأة للأساليب الاجتماعية المتبعة في إقراره دون موافقتها وأخذ رأيها، نرى الكم الهائل من النصوص المعبرة عن الزوج المكروه، وطبيعة الحياة المرة التي تعيشها المرأة في ظل الاكراه والهيمنة الذكورية على مقدراتها. لذلك فالدارمي ليس غزلا خالصا كما يوحي العنوان.

وأوافقه في ما ذهب اليه حول أوزانه، وان بحور الفراهيدي لا تنطبق على الشعر الشعبي او الملحون كما يطلق عليه في المؤلفات العربية. فالقواعد العروضية لا تنطبق على هذا الشعر كما يرى الخليل لوجود فروق جوهرية بين اللغة العربية واللغة المحكية. فالأولى لا يلتقي فيها حرفان ساكنان كما في الثانية، فكيف يمكننا تطبيق قواعد مستقرأة من العربية على الشعبية.

وفي مرونة الدارمي بين الباحث صلاحية هذا الفن للغناء وليس للإلقاء. فالمغني قادر على التصرف والاختيار اعتمادا على طبيعة طبقته الصوتية. وأورد مثالا على ذلك في الدارمي التالي الذي قدم فيه العجز على الصدر:

روحي خطية عاجل غزاها الشيب

ما عدها نية    تكبر وتنسى الشوگ

ثم بين الباحث ابتعاد الدارمي عن اجواء الحرب والحماسة، والمديح والسياسة، وعن الحكم والمواعظ أو الانشاد الديني، مركزاً موضوعاته على الحب والمشاعر الذاتية، ومعاناة المرأة.

ويشير الى أن بناء الدارمي يكون من بيتين موزونين توحدهما القافية، وكل بيت يتألف من صدر وعجز، ويرتبطان بعلاقة عضوية ان فقدت يفقد الدارمي وقعه المدهش، ويطرح أحد البيتين البداية أو القفلة حدثا أو احساسا متوقعا، بينما يحمل الآخر شيئا مفاجئا. وهناك نصوص تنفرد ببداية غير متوقعة ونهاية تصدمنا بـ اللامتوقع أيضا، وهذه تعد من روائع الدارمي. وقد أورد نماذج استدلالية لهذا النوع من الدارمي، تظهر الاستيعاب الواعي لما ذهب اليه المؤلف، وقدرته على قراءة النصوص وفق رؤية استدلالية تبرز خفايا النص وتوجهاته غير الظاهرة لدى غير المتمرسين في دراسة النصوص الادبية.

ويرى أن قصر الدارمي، هو ضرورة فرضها المجتمع على المرأة، فللرجل المجال الواسع للبوح بمكنوناته دون خشية، بعكس المرأة التي تحسب عليها حركاتها:

حرموا حتى الصوت   بسمك فلا أصيح

دمعتي بطرف العين  بس أرمش اطيح

لذلك “ كان عليها أن تكثف قصيدتها كما البرقية المشفرة التي يبعثها سجين تحت المراقبة” وبهذا يمكننا القول إن المرأة سبقت الآخرين بالتعبير عن رأيها بالومضة التي لجأ اليها الشعراء في العصر الحاضر.

شيوع الدارمي

ثم يتناول المؤلف انتشار الدارمي وشيوعه عبر الاجيال، عازيا ذلك الى عوامل ذاتية وخارجية. فالعوامل الذاتية التي امتاز بها هذا الفن أنه تعبير عن الحاجة الانسانية للحب والحياة، وقصر الدارمي ورشاقته، ومجهولية قائله تبعد من يتداوله عن المساءلة العشائرية أو العائلية. أما العوامل الخارجية فهي (بنات العيد). وهن صبايا قرويات يشكلن فرقا غنائية ويتجمعن في الاعياد والمناسبات ويغنين الدارمي، فينتشر بين الناس، ثم يتناوله المطربون فيشيع على الالسن.

وكان للغناء دوره في اشاعة الدارمي وانتشاره، اضافة لدور الغجر الذين اعتمدوا الدارمي في كثير من اغانيهم.

والجديد في ما أورده المؤلف هو (الخيرة في الدارمي) فهذا الموضوع بدا مفاجئا لي رغم ايراده أدلة وشواهد اعتماداً على ما اوردته الكاتبة نبيهة احمد الزبيدي في بحثها الموسوم “الخيرة الشعبية بين الضرورة والصدفة”. فالنماذج التي وردت للدلالة لا تحمل في مضامينها شيئا من الحدس أو التخمين في معرفة الطالع، ولم أسمع عند بحثي عن الدارمي من خلال لقائي بعشرات العجائز وبعضهن ممن عشن أواخر العهد العثماني أن الدارمي استعمل في قراءة الطالع أو الاستخارة.

الدارمي ومضمونه

وفي الفصل الثالث عمد المؤلف الى نقد ومناقشة الآراء التي وردت عن الدارمي، واستعرض تلك الآراء مفنداً أو مؤيداً، وهذا يمثل وجهة نظره في طبيعة تلك البحوث ودلالاتها، مستخلصا رؤيته في التفنيد والتأييد، خصوصا في مسألة تسمية الدارمي التي ذهب فيها الباحثون مذاهب شتى فيها كثير من التمحل والادعاء، إلا أن ما وصل اليه المؤلف كان ضمن إطار من أكد تسميته الشائعة بـ (الدارمي) ومضمونه الذي لا يتعدى غزل البنات، وهذا الرأي الناضج تؤيده حقيقة هذا الفن ودوافعه ومراميه.

وناقش الاستهانة بالدقة وأصول البحث العلمي لدى بعض الباحثين ممن كتبوا عن الدارمي.

أصل الدارمي

فيما بحث الفصل الرابع في أصل الدارمي، وخلص إلى القول أن العرب المتمسكين بالقيم العربية لم يسمحوا للنساء بقول الشعر الغزلي، إلا أنه شاع بين نساء غير عربيات في الدول الاسلامية كالأمازيغ والافغان، وهذا النوع من الشعر قريب من الدارمي في بنائه ومعانيه. واستعان بالمعاجم والقواميس الاجنبية ليخلص الى القول ان تسميته جاءت من سكان العراق الاصليين وهم السومريون بالتحديد أو الأكاديون والبابليون وما تلاهم من أقوام. وعرف من خلال بحثه الطويل بأن تسمية الدارمي جاءت من اللغة السومرية. فكلمة “دار” تعني نسج و”مي” تعني البنات، وبذلك جزم بسومريته.

وفي الفصل الخامس عمد الى فرز الدارميات النسوية من خلال استعراض اراء الباحثين في هذا الجانب وخلطهم في نسبة الشعر النسائي الى الرجالي رغم افتقارهم للدليل القاطع.

الدارميات النسوية

 خلاصة القول، في هذه الدراسة القيمة أن الدكتور العقابي قد استطاع من خلال بحثه هذا الوصول الى نتائج باهرة لم يسبقه اليها أحد وتمكن بدأبه وصبره على البحث من وضع حد لكثير من الاحتمالات التي ذهب اليها كثير من الباحثين، وإن كنت أؤاخذه على أمرين أنه لم يضع معان للمفردات الشعبية التي يجهلها كثير من القراء، وعمد الى طريقة غريبة في الاشارة الى المصادر تختلف عن المألوف في المؤلفات العربية وإن كانت على طريقة البحث الأكاديمي الحديث في الجامعات الغربية.