اخذت مساحة المشهد الثقافي العراقي بعد سقوط الدكتاتورية، بالتوسع في كل فنون الابداع، وبشكل خاص الشعر الشعبي. فرغم محدودية انتشار هذا النوع من الشعر خارج العراق، كونه يعتمد اللهجة العراقية الدارجة، فقد اثبت جدارته في تقديم صور شعرية استثنائية، جذبت له القارئ المتمرن في تحليل وتسجيل جملته المغايرة. وأعني بالقارئ المتمرن المحلل، ذلك الذي يقرأ ويقرأ، ثم يطرح بعد ذلك رؤاه النقدية، بحيث يكون قبالة المبدع صاحب الفرادة، قاريء يحاول مسايرة الابداع. ولهذا توسعت الرقعة الجغرافية للمشهد الثقافي العراقي بعد سقوط النظام، والخلاص من الرقيب الداخلي في مسامات أنامل المبدع.
ولما كانت اللغة، هي الحاملة لأغصان شجرة الابداع والثابتة بجذورها، تراكمت عليها المعارف عمقا، وعلى اسطحها ظهرت الجماليات المختلفة، باتت الإبداعات تطاردنا بجمالها نحن القراء، دون أن نستطيع الإلمام بها، مما يشكل إقراراً بعجز النقد عن اللحاق بقافلة الإبداع الثرية.
واثبتت لغتنا العربية بهذا انها حاضنة لكل الأنساق الإبداعية الحديثة في كل رؤاها المكانية والزمانية، تأخذنا الى مناطق تأملات عميقة، ولاسيما في الجملة الشعرية التي تمزج بين المعرفة والمهارة الذاتية، وهي تعلن عن لحظاتها الابداعية المتوهجة داخل القصيدة.
وهذا ما نتلمسه من قراءة قصيدة الشاعر سفاح عبدالكريم المعنونة "الجهات الأربع"، والتي يعلن فيها اصالة النفس وقوة وقوفها امام زحف سيء يحاول زحزحتها عما هو متأصل فيها. فروح الشاعر حين يقول "أمرايه روحي إو جامها الصافي ايتحسر" صافية تتلألأ فيها جماليات الاستقرار الثابت المتأصل، تماما كقوله "طيبتي من أهلي اورثتها/ من سجايا الخيل المأصله التدنگ للشلب)، وقوله:
"صوتي بيه همسة حبايب
وأمي وصتني إعله كيفك من تحب
صاحيه الغيره البراسي، وآنه صرماية حچي او طوري عذب
بعده ذاك المستحه ايطرز إرموشي
وعايز إشوية وفه حتى أقترب"
فذات الشاعر اصيلة كالخيل الاصيلة، ثابتة كماهي الجهات الاربع، لكن "عايز إشوية وفه حتى أقترب"، فقد تكون جمل الشاعر اعطت بنية سطحية، تقابلها بنية عميقة، هاجمت بسلاح الثبوت المتأصل حالات العقوق من الآخر. ثم يقول الشاعر عبد الكريم:
"حاير ابيا صوت أغني... حتى من أخسر أظل ساكت چذب
أصرخ إو مامن مجيب اليروي بستاني وآنه الصاير عِشب
إمخضره ابدربي الليالي وانتچيت إعله الوطن حسبالي اشب
عوز يمي التم عليه إمن الجهات الاربعة واشلون أهب"
وهنا عكس حيرته، ورغم ان الحيرة والحزن ينتابانه، بجمال وهو الغناء بقوله "حاير ابيا صوت أغني..."، يثبت ان العراقي كالعنقاء الطائر الذي لا يموت بسهولة، حيث العنقاء صفة مشبهة تدل على الثبات، فبقي الشاعر يغني رغم حزنه التليد، وبهذا خلق حالة توتر بين صوره المغايرة.
وحينما نتمعن، ونغوص في مكنونات التجربة الجمالية والفنية الخاصة للشاعر، كما وشتْ بها نصوصه في إطار سياقات معرفية وفكرية عايشها فعلاً، ثم مقاربة طريقته المميزة في ابتكار جماليات مرتبطة بتلك التجارب والخبرات الخاصة، تظهر لنا حيرته انه اختار الغناء، لكن ايما صوت يختار صوت الحزن، ام صوت الفرح، وهنا بقي الشاعر يداري حيرته، وهكذا استمر قائلا:
"الساتر الله.. اتراب بيه ريحة مقابر
والهوى المَرّ عالأرصفه ايحطني ابذنب
عندي إتدور الافلاك البعيده الذكرياتي الغاليه او جفني رطب"
ومن منطلق الحيرة، بقي يعالج قضايا الوطن وعلاقة الحب معه، ففي القراءة التأويلية يبقى العمل الأدبي يمر عبر سياقات تاريخية وثقافية مختلفة، مما يعني وجود معان جديدة ومختلفة يمكن تصورها في العمل، والتي لا يمكن أن يكون المؤلف، قد تصورها، أو الجمهور المعاصر، إذ يتوقف ما ينقله النص لنا على طبيعة الأسئلة، التي نطرحها عليه، وعلى قدرتنا أيضاً على فهم السياق التاريخي، الذي كتب فيه النص، ويتم تأويل النصوص عبر مراعاة الكاتب، والنص، والسياق التاريخي. ويعتقد الناقد الأميركي “هيرش غونيور” أن النص الأدبي يمكن أن يعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين في أوقات مختلفة، وأن أهمية النص يمكن أن تتغير عندما يتغير السياق" فالشاعر سفاح عبدالكريم بقي ضمن حالة الحيرة والتردد، الا انه استطاع ان يقترب من رؤيته الخاصة بقوله:
"إمحايله اظنوني واشوف آنه السراب
امنين أجيب الفرح حتى أرجع شباب
الخاطر اليبچون أنا گمت اشتعل"
واخيرا لم يجد بدا من ان يشتعل لينير الطريق، ويكشف حقيقة علاقته بالوطن وبالآخر، متعكزا على جملة شعرية تقول: "الوكاحه إهدوم شتويه او تلمني/ والدفو إبراسي واخاف اكشف لِعب". جملة القول ان الشاعر ظل يحمل الحذر والخوف والحيرة، لانه ابن العراق الذي خرج من اعتى دكتاتورية عرفها تاريخه، ولا زالت آثارها بادية عليه.