اخر الاخبار

(مسعود عمارتلي / دهشة الصوت وانتفاضته)، هذا ما اختاره الاستاذ سلمان كيّوش عنواناً لمنجزه عن المطرب مسعود العمارتلي، وقد صدرت طبعته الثانية عن منشورات الأتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق / ٢٠٢٥، وهي الطبعة المعتمدة في قراءتي المتواضعة هذه.

وقد جاء الغلاف جميلاً بأرضية تجمع بين الرصاصي والأخضر، حاملاً اسم المؤلف وعنوان الكتاب بالأسود والأحمر تحت صورة لوحة جميلة، وإن كانت لا تمت الى موضوع الكتاب بصلة، والكتاب (سيرة) وهي سيرة غيرية، كلفت كاتبها كثيراً من بذل الوقت والمال والجهد الجهيد، حتى جاءت ثمرة مدهشة، كدهشة كاتبها حين عنونها بذلك العنوان الشعري، بأنزياحاته المعبّرة عن رفيف الروح وخلجاتها عند مسعود أو عند سامعه، وقد بدت لي اثناء قراءتي الماتعة.

ولي على الكتاب بعض الملاحظات:

  1. من باب الأمانة العلمية، ذكر المؤلف روايتين عن والد (مسعود)، فهو (سعد) حسب رأي الباحث ثامرعبد الحسن، بينما يرى إياد ناصر شريجي – الذي كانت مسعود عمة والدته - أن والد مسعود هو (حمود)، وهذا الرأي أرجح من رأي ثامر عبد الحسن لواقعيته، بحكم صلة القربى القوية بين إياد ومسعود، وسبب هذا الخلط بين حمود وسعد متأتٍ من زواج أم مسعود من سعد بعد وفاة زوجها حمود، وسعد هنا (أحد كوّام علي الغربي/ ص 18)، وسيرة مسعود كلها لم تذكر أنه أقام في علي الغربي.
  2. بَحَث المؤلف في دائرة النفوس بمساعدة العقيد كاظم محمد عباس عن اسم المكان الذي وُلد فيه مسعود، وتركز البحث على الكحلاء، والحقيقة ليس للكحلاء ذكر في وثائق النفوس في زمن ولادة مسعود، لأن الكحلاء كانت تابعة لقلعة صالح، وكانت قلعة صالح تُثبت مكان ولادة لمواليد الكحلاء، وهذا يستدعي أن يكون البحث عن مكان وزمان الولادة في قلعة صالح لا في الكحلاء.
  3. يقول المؤلف: ((كل شيء معروف ومتفق عليه وشائع،لا أحد يملك مالا يملكه الآخرون / ص 22)) هذا التوصيف يوهم القارئ في كونه توصيفاً شاملاً لكل سكان الريف، والحقيقة ان التقسيم الاجتماعي أنذاك طبقي بامتياز، وقد فصل المؤلف هذه الطبقية بوضوح بعد تلك العبارة المربِكة، فقّسم المجتمع الريفي الى ثلاث طبقات، اقطاعيين غارقين في الترف، ثم طبقة وسطى تضم الملالي والسراكيل والمأمورين والحوشية، وهي طبقة ((تستمد هيبتها وديمومتها في كونها حلقة وصل بين طبقتي الشيوخ والفلاحين / ص 24)) ثم الطبقة التي تمثل الأغلبية الساحقة وهي طبقة الفلاحين التي كانت تعيش فقراً مدقعاً، أما العبيد - ومسعود منهم - فهم شريحة تؤدي خدمات كثيرة للأقطاعيين مقابل حصولها على ما يسد جوعها من المأكل ويسترعريها من الملبس، ومكان للنوم.
  4. يقول المؤلف ((وتمنيت أن أعرف إن كانت عائدية هذا الحلال لأهله - أهل مسعود - أم للشيخ /ص 38)) وأرى - بلا جزم - أن الحلال من الأغنام، يعود للشيخ، لأن مسعود من العبيد - السمران على حد تعبير المؤلف - والعبيد شريحة لا تملك كما أوضحنا، ومسعود عبد من عبيد شيوخ البو محمد بلا أدنى شك.
  5. ((ما أن تنتشر الأغنام، يجلس مسعود في مكان مرتفع ليشرف عليها، بيده عصا، يحركها أمام وجهه، ثم ينقر بطرفها الأرض على إيقاع لحن في طريقه للاكتمال في ذهنه، ثم يُدندِن بصوت منخفض تجريبي / ص 39)). لا شك أن هذا السرد الجميل يحدد بدايات مسعود الغنائية، وهو سرد من صنع خيال المؤلف، يلجأ إليه مستعيناً بوقائع، مُلبساً إياها ثوب الخيال بحذاقة تشد المتلقي شداً. ويكرر هذا السرد في اكثر من مكان، کسرده لأول اختبار لمسعود في بغداد فی مقهى پرتادها المغنون وعشاق الطرب / ص 54، وما أحلى سؤال مسعود لعيسى رفيق دربه : ((إهنا ماكو سياح))، هذا الخيال السردي يقره المؤلف بقوله : ((ألتمس العذر من القارئ الكريم لأني أُلجئُه إلى التعويل على مخيلتي وتصديقها / ص 28)) وهذا هو اعتراف العالِم متواضعاً بعد جهد جهيد لأِنضاج ثمرات صاغها، ولعل فصل (فلسفة الگاط 112) مثال لسرد اذا ما رأت فيه العین فسترقص الروح طرباً.

6.(مسعود نفسياً /ص 61) فصل من فصول الكتاب، ممتع لغة وتحليلاً وتعليلاً، مركزّاً كان على التحول الجنسي من الانثی (سْعيدة) الى الذكر (مسعود)، محللاً حادثة انتصار مسعود على رجلين أرسلتهما (فتنة) للاعتداء عليه، هي حادثه ترسخ ما في نفس وجسد (سْعيدة) لتكون (مسعود)، وأرى سبباً مهما وحاسماً في الرغبة في التحول الجنسي هو الموهبة الغنائية وسحر حلاوة الصوت التي غطت على ماسواها، ولم يكن هنالك بد من اطلاقها، وهل كان مسعود سيجد الفضاء الذي يحلق فيه لو كان انثى؟ أيسمح له بالسهر في مجالس الرجال؟ لذلك هرب الى العمارة، كي يتخلص من (فتنة) ورغبتها في تقرير الأنوثة التي ستبقيه أنثى مستعبدة مع قطيع المستعبدات في بيئة ما أضيق اطارها.

  1. تدوين كلمات الأغاني التي غناها مسعود في غاية الأهمية لأنه حفظها من الضياع، وقد بذل المؤلف جهداً فائقاً فيها وأضاف بعض التوضيحات، واحتار في بعضها كحيرته في (عِجيد) فهو يظن انها (عنيد)، وارى وقد اكون مخطئا انها بمعنى (شجاع) وهي محرفة عن (عَقيد) وهو الذي تعقد له الراية في القتال ومن أولى صفاته، أن يكون شجاعاً.
  2. يعج الكتاب بمفردات اللهجة الجنوبية استجابة للموضوع ولوهمش المؤلف شارحاً الغريب على القراء الشباب اوالقراء من غير ابناء الجنوب لكان أسدى خدمة كبيرة لهذه الشرائح، ولنأخذ مثالاً (البيرغچي) وهومَن يحمل الراية الكبيرة في المعارك، وتكون رمزيتها عالية، وهي مأخوذة من (البيرق) وهو لفظ مُعرَّب.

ختاما إن ما أنجزه الأستاذ سلمان کيوش فرداً يعادل انجاز فريق جماعي، ويستوجب التكريم والاحتفاء لأنه خلَّد اسماً يستحق هذا التخليد، ورصد جوانب مهمة في المجتمع تنفع كثيراً دارسي الانثربولوجيا، مركزاً على شخصية (مسعود) ومعاناته حتى انتهى مسموماً سنة 1944 وهو في أوج مراحل ابداعه.