في البدء لا بد من التنويه الى أن العنوان مستمد من بيت شعر قديم ينسب الى عدد من الشعراء، والمقطع المجتزأ جاء تعبيراً عن لسان الحال الذي ينطق بالآتي:
خَيالُكَ في عيني وذِكرُكَ في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
حين يُقدر لك أن تدخل عالم موفق محمد الشعري، سيأخذك الهم الإنساني مأخذاً، ويسكن فيك الجرح الغائر والممتد عميقاً حتى شغاف القلب، فلا ضير أن تسبح بالأحزان، ولكن يصعب عليك مفارقته دون أن تتقاسم وأياه الألم والصبر وما بينهما الأحلام.
انطلق الشاعر موفق منذ منتصف عقد الستينيات، بادئاً اشتغالاته باللهجة المحكية، وباكورة قصائده نشرتها جريدة (كل شيء) الأسبوعية أواخر سنة 1964. أما أولى قصائده بالفصحى، فقد نشرت سنة 1968 في مجلة (الفنون المعاصرة) التي أصدرها الأديب والناقد مؤيد البصام بالاشتراك مع الشاعر الراحل سركون بولص. ومرت الأيام الى أكثر من جديد في حياته بعدما خاض سنة 1969 غمار تجربة العمل الصحفي، إذ عمل في مجلة (صوت الطلبة)، ولكنها انتهت بعد فترة لم تبلغ السنتين، لما غادرنا الزمنُ الذي كان فيه الوطن يتسع للآخر المختلف. جاءت الانعطافة الحقيقية مرتسمة بخطوط عريضة، حينما قام الراحل حميد المطبعي، بنشر قصيدته المعنونة (الكوميديا العراقية) في (مجلة الكلمة، العدد: (6)، السنة الرابعة، بتاريخ تشرين الثاني 1972)، التي أصدرها في مدينة النجف، منبهاً بمانشيت على غلافها، يقول فيه: "موفق محمد شاعر يولد في الكوميديا العراقية"، وما زالت تلك القصيدة الى يومنا هذا تسترعي انتباهة النقاد. وبدا واضحاً أنه يحوز على حساسية مرهفة وعمق وجداني وعقل شكاك وروح مشاكسة، وأبرز ما يحسب له في ذلك النص إحساسه بالمأساة القادمة، واستشراف الزمن الغادر الذي جاء محملاً بالمرارات.
يتجلى توجه موفق الى استعمال اللغة المحكية واضحاً، سواء بتضمين العبارات في المتون النصية، أو بصوغ قصائد كاملة، بحثاً عن مسارب، ٍ تقرّبه من المتلقي، وتدفع إبداعاته بقوة نحو الآفاق الواسعة، وظل مداوماً في جنوحه نحو استدامة هذه السمة في غالبية نتاجه الشعري، بحيث شكلت ظاهرة أسلوبية مهيمنة على نتاجه، وبذلك استطاع موفق ابتكار أسلوبه الأدائي المتفرد، وصيّر طريقه في فن القول، حين تجرأ على كسر التقليدية، نشداناً لتحقيق شكل من أشكال التعبير الشعري دون التقيد بمألوفيات النمطية السائدة، مستعيناً بموهبته التي تتسع الى التفنن المبدع باستحضار تنوعات متعددة من اللغة المحكية، على شاكلة: المرويات الشفاهية، المأثورات الشائعة، الحكايات، الأغاني، الأمثال، النكات، وحتى الشتائم، مستثمراً كل ما يثري ويُصعد من الطاقة التعبيرية التي تضفي بريقاً على اشتغالاته المتسمة بالمغايرة والاختلاف،
ينطوي خطاب موفق الشعري على النزوع النقدي المشيد بواسطة السخرية اللاذعة، وإذا توخينا الدقة، فأنه يسعى الى تشكيل صور شعرية تقوم على المفارقة بين الواقعي والفنتازي، والسخرية في الواقع سلوك ليس محايداً، وأداة ليست بريئة تحمل مغزى، أداة قادرة على انتهاك ما يفرضه المجتمع من حدود، فهي تتوسل أية ملاذات تصل بها الى أعلى قدر من الطِرَفة التي تتمدد الى أقصى الحدود، وتتساقط بقوة على أرائك الضحك المتراكب مع المرارة. وتتجلى الوجهة التمردية عند موفق في تناول أشد الموضوعات وجعاً، سيما ادانة التسلط ورفض المظالم. وتأمله قوله في القصيدة القصيرة التي جاءت بعنوان (الطرف السائب) سنة 1979، الآتية:
"في عُنقي
حكمتُ الحبلَ
وألقيتُ الطرفَ السائبَ للكلب
وبدأت السَبْ
يا كلبُ يا بن الكلب
ابعدني عن أسواق القصابين
ولا تنبحُ قبلي
يبكي الكلبُ
يرمي طرفَ الحبلِ
ويركضُ مجنوناً مثلي"
يقوم موفق بتعرية الواقع، وهو يعوم بمركب السخرية المريرة، يتنقل مخترقاً مديات الخيال الشاسعة، يقرأ في كتاب الدنيا المفتوح على العجائب والغرائب، ويسطر تعابير بسيطة تلقائية وكلمات جارحة، ويشكل صوراً مدهشة مستقاة من التقاط المألوفات الحياتية، تختزن الخيالات والأفكار والخواطر والانفعالات، وتحمل صدمة اللامعقول، وتبث روحية الخروج عن الاعتياد، من خلال حشد مرموزات متشابكة، تتشظى في أصداء عابرة، متماهية مع انسانية حالمة، ومسكونة بالأمل، متلازمة بخيط من الحزن العميق النابع من الوجدان. وها هي قريحة الشاعر تجود بنص قصير سنة 1979، بعنوان (المنقذ)، قائلاً:
" المنقذ
شخصٌ ما
يُدعى ابن محمد
تركَ الرأسَ هنا والأطرافَ
ولف القلبَ
وغادرني
أو أبحث عنه
أم أبقى منتظراً
يبحثُ عني"
امتدت تجربة موفق الى سنين ناهزت نحو ستة عقود، وهي تقف في مقدمة التجارب الشعرية الحديثة في العراق، وقد جعل موفق من الشعر أن يتلبس كل الأشياء، فتناول هموم الإنسان وشجون الحياة، جعلته من أبرز شعراء العراق المؤثرين على القراء، إذ تمثلت انجازاته الشعرية في نصوص منبعثة من القلب، استطاعت أن تسافر بالإبداع الخلاق الى ما وراء شواهد العين، متجاوزة الظاهر الى الباطن، ونافذة بعين المخيلة عبر ما هو كائن في المرئي الى ما هو قار في بواطن الأشياء من اللامرئيات، دون الانفصال عن الواقع والتنكر له، فبانت المعاني على سطح النص تارة، وتوغلت المداليل في الرمزية تارة أخرى.
أنشغل موفق بالمكان، وصارت الحلة هاجسه الدائم، بوصفها جذر تاريخي عميق، كان موصولاً بمخيلته، فسعى الى توظيفه على مستوى التصريح والترميز، والمكان بكل مفرداته، هو الرحم.. حاضن الوجود.. بيت الطفولة.. مكان الألفة.. الفضاء الاجتماعي.. أولى عتبات الذاكرة، ومركز تكييف الخيال على حد قول باشلار. وأخذت الحلة حظاً وافراً في انثيالاته الوجدانية، تلامس مخيلته، بل تخضع لرغبات محترفه الإبداعي، وتستجيب لغوايته الرامية نحو استنطاقها، ويفتتح الكثير من النوافذ ما بين الأزمنة، وبذا فأن الصورة المكانية في نصوصه باتت تحتضن الماضي والحاضر.
تميزت تجربة موفق الشعرية بكونها تنادي بالحرية والعدالة وكرامة الإنسان، يتكثف فيها الوجع العراقي المعتق بالمرارة، تتفجر شعراً يشبه الجمر، ومثلما تثير الاندهاش، فأنها ترتقي بالذائقة، حيث يسيح الجمال متعالياً من بين سطورها، وباختصار أنها تجربة منحازة لليسار، وقد جعل من الشعر وسيلته لقول كل شيء، مواجها احتدام الأحداث وتفاصيلها برؤية جمالية وإنسانية ملموسة، وصاغ بالحروف والكلمات عدداً من القصائد الدافقة بمعاني الانتماء للوطن، غنى للمطرقة والمنجل، وشد من أزر نضالات شغيلة اليد والفكر، وتجلت جسارته وطبيعته الثائرة والمشاكسة في منجزه الذي لفت الأنظار، وأدعوكم هنا الى تأمل جرأته بما جاء في مقدمة قصيدته المعنونة (حصار) التي قرأها منتصف السبعينيات في قاعة اتحاد الأدباء ببغداد، حينها تعالى صوت الشاعر وهو يعبر عن احتجاجه وما يعتمل في دواخله من مشاعر حول تصفية صديقه الراحل (حميد الصكر) مدرس اللغة العربية الشيوعي، قائلاً: "يمكن أن تحرق رأسَ شيوعيٍ بالنار، لكن لا يمكن أن تحرقَ في هذا الرأس الأفكار".
كان يُسطر إبداعاته بنزيف الروح فوق بياضات الورق، وغالباً ما تأسره نشوة البوح والتصريح، متفوقة على سياقات التلميح، وتنطلق الاختلاجات من وجدان متيقظ، مقترنة برغبة على التمرد، فيركب مغامرة عبور الخطوط الحمراء، وليكن الطوفان، لا يبالي صاحبنا بما يأتي وراء فحيح الأفاعي من سموم. هكذا عاش.. وهكذا تفنن.. وهكذا قال كلمته ومضى.. ولا أجد غضاضةً في القول: أن مشواره الإبداعي كان مصداقاً يجسد مقولة الشاعر أدونيس، ومفادها: عش ألقاً، وابتكر قصيدة.. وامضِ.. زد سعة الأرض.
ــــــــــــــــــــــ
كلمة ألقاها الكاتب في حفل الاستذكار للشاعر الراحل، الذي أقامته محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي في مدينة الحلة.