تتقوّض الحدود الشكلية لهذا الفن الياباني الرشيق، ويخرج من صمته التأملي إلى صرخة مكتومة تعبر عن خلل الداخل، عن انكسارات الروح في جغرافيا مثقلة بالتعب والأسئلة. في هايكوات الدكتور حامد الشطري، لا نعثر على “اللحظة الطبيعية” بوصفها لذة بصرية، بل نواجه الطبيعة وقد صارت استعارة للخذلان، لصدى الرحيل، ولفقدان المعنى.
“الگصيبه شما تطول”، ليست مجرد صورة نهرية، بل مرآة للزمن الذي يعلو ويثقل القلب، حيث القمر نفسه – رمز البهاء – يُسَدّ عنه الطريق ويصرخ ضيمًا. في هذه الجملة القصيرة تتكثف فلسفة الحنين: الجمال محاصر، والنقاء لا يصل، والنداء لا يُسمع. “ولك خيط الشمس محد وگف ضده”، تنفتح القصيدة هنا على مشهد ضوئي، لكن ما يُبنى فوق هذا الضوء ليس الفرح بل الحيرة: “ماتدري النده يسكر لو ضاگ العسل من شفة الوردة”، حيث يتحول كل نداء إلى تائهٍ في لذّته أو مرارته، فيختلط العشق بالارتباك، ويتحول العسل إلى ما يشبه الخمر، أو العكس، لأننا في عالم لا فرق فيه بين ما يُسكر وما يُسكر منه.
ومثل مسافر يُراكم محطات بلا وصول، تأتي قصيدته الأخرى: “اسنين شاتل عيني بيبان ابمحطة”، حيث الذاكرة ليست سرداً بل وجعاً مترحلاً، يحمل الظنون كأنها أحلام، ثم يقف أمام قطار، يشير له، لكن “ما فهم”. هنا، اللغة تكفّ عن كونها وسيلة، لتصبح هي الأخرى مشروخة، عاجزة، غريبة على الآخر الذي لا يقرأ إشارتك.
ويأتي الانقلاب الصادم حين يقول: “الضفاف تنطي للنهرين اسمها”، فهل النهر ما يمنح الهوية أم الضفاف؟ هل الوطن ما يسيل أم ما يحتوي؟ ثم يُطعن الحنين حين يتحول الماء إلى ريح، والحضن إلى غياب، والنداء إلى “أفيش”، أي شيء من زمن البثّ واللا-حضور، “ياريحة وطن”، تلك الجملة التي تختصر كل تمزق المنفى الداخلي، وغياب الحضن الحقيقي. ويواصل الشطري تفكيك العلاقة بين الحلم والواقع، بين النار والماء، بين الشمع والحطب: “ليش سموك السراب؟ لأن ماطفيت كلشي”. فالحب هنا ليس انطفاء بل اشتعال دائم، ومتى أراد الحبيب أن يطفئ ناره، خاف من المنجل. الحطب لا يرمز للموت فقط، بل للقراءة القاسية التي يمارسها الوجود على العشاق، كأن كل نهاية تكتبها الطبيعة بأداة حصاد.
ثم يختم بمشهد شاعري مفعم بالحزن والدهشة: “تارسه احضانچ رسايل”، والجمال ليس في الامتلاء فقط، بل في صمته، في قدرة الأحضان على أن تكون بريدًا دون أن تبوح. وعندما يقول: “ليل امساهرك واقره بمناجل”، فنحن أمام صورة خارقة للمألوف، حيث الليل لا يسهره الحب بل الحصاد، والخوف، والنصوص المكتوبة بأدوات العمل، لا بالحبر.
أما المشهد الأخير: “يلي طولك لونه فضه”، فإنه يستحضر رومانسية ناعمة تُرفض من لون الراوي، “ولوني ماينطيش ومضه”. وهنا، يتجلى اليأس في أرقى صوره، حيث لا يكون الانتظار فقط انتظارًا للحبيب، بل انتظارًا للماء في البيدر، للخبز في التنور، أي للوجود نفسه في هيئة حنّونة.
نصوص حامد الشطري الهايكوية ليست تمارين شعرية، بل محطات وعي، وإضاءات خافتة على قلبٍ يُشبه قصبة ضائعة في نهر خريف. فيها من وجع الروح ما يجعلها أقرب إلى مذكرات عاشق مهزوم، أو سيرة ذاتية لكائن يبحث عن دفء ضائع في “أفيش” مدينة، أو في رماد شمعة، أو في قطار لا يفهم الإشارة. كل هايكو في هذه المجموعة هو شظية من قلب، وهوامش من حكاية كبرى لم تُكتب بعد، لكنها تُلمح في كل صورة، في كل سكوت، في كل “ضيم” يعلو على سطح الغيم.
هايكوات ..
1
الگصيبه شما تطول
وتعله فوگ المتن غيم
يلبد بسدها الگمر
ويصيح ضيم..
2
ولك خيط الشمس
محد وگف ضده.
ماتدري النده يسكر
لو ضاگ العسل
من شفة الوردة ..
3
اسنين شاتل عيني
بيبان ابمحطة ..
وشايل اظنوني حلم
ضگت اني اسراب جيتك
بس قطارك اشرتله وما فهم
4
الضفاف تنطي للنهران اسمها..
ومايها تلمه حضن..
وانت شبگه بحضن ريح
واني اصيح افيش
ياريحة وطن...
5
ليش سموك السراب
لان ماطفيت كلشي..
من جبت روحي الك
مشتعله شمعه وخيط ذاب
گتلي ماطفيك اخاف من الحطب ..
يقراني منجل ..
6
كاعده وشفته شليچ
تارسه احضانچ رسايل.
كتلچ تبيعينهن..
گلتي وشيبي..
واثار انتظاري..
وحلمك المكتول ..
ليل امساهرك واقره بمناجل
7
يلي طولك لونه فضه
ولوني ماينطيش ومضه..
امناطرك بيدر سنابل..
عطش تنوري الخبز