اخر الاخبار

أنا والنواب

كنت ومنذ عرفت النواب شاعرا في الستينات وأنا مولع بشعره أتتبعه في كل جريدة أو مجلة يُنشر فيها وكنت أكتبه في دفتر عندي حتى عام 1972 وفي 25/5 من العام نفسه حيث قمت بجمع ما حصلت عليه من قصائده وجعلتها في دفتر خاص وكتبت عليه (للريل وحمد.. ديوان شعر لمظفر النواب)، وتشاء الصدفة أن أحصل على ديوان النواب وإذا به بنفس العنوان ( للريل وحمد،). عام 1964 كنت أعمل في شعبة الأوراق في وزارة الأعلام والمرحوم لطفي الخوري مترجما في قسم الرقابة كرقيب للمطبوعات ومترجم. وحين نجاح النواب الخروج من السجن ترك خلفه دفتر كتب فيه بعض قصائده وملاحظاته وبخط يده، وأُرسل الدفتر من قبل مديرية الأمن العامة إلى وزارة الأعلام- دائرة رقابة المطبوعات- بكتاب سري سائلين: هل يمكن اعتبار ما ورد في الدفتر مبرزات جرميه ضد النواب، وأُحيل الكتاب السري إلى المرحوم لطفي الخوري، فأرسه إلي وقال: هذا دفتر صاحبك النواب اقرأه. وأجب أنت على الكتاب لنرسله إلى الأمن العامة، فقمت بنسخ كافة موجودات دفتر النواب واحتفظت بها وما زلت.وكتبت، (إن شعر النواب يعبر عن ذاته وعن مبادئه فاذا ما أُعتبرت مبادئه معادية فهي مبرزات جرمية وان لم تكن فهي قصائد شاعر يعبر بها عن خواطره).

عام 1972 أو 1973 كتبت مقالا بعنوان الأصالة في شعر مظفر النواب وقدمته    

حينها إلى المرحوم لطفي الخوري رئيس تحرير مجلة التراث الشعبي التي كنت السكرتير التنفيذي لها. إلا ان المرحوم الخوري رفض النشر وقال ضاحكا (تقي تريد تورطنا) وبالفعل تركت المقال وأهملته. اليوم وأنا أقلب في أوراقي القديمة رأيت مجموعة من الأوراق مطوية وإذا بها البحث نفسه. فعن لي أن أعيد نشره.

الشعر الشعبي هو أحد أركان الأدب الشعبي العراقي، ومن المعلوم أن الشعر الشعبي كما الشعر العربي قد طرأت عليه تغيرات كثيرة كالتي طرأت على الشعر العربي ومنها الخروج على التفعيلة القديمة، فنتج عنها الشعر الحر، كما نتج عن الشعر الشعبي نتاج جديد هو الشعر الشعبي الحر الذي لا يلتزم بالأوزان والتفعيلة والطور وكان من أوائل رواد هذا الشعر هو الشاعر العراقي مظفر النواب، نعم هناك من رافق النواب في مسيرته من الأوائل كعريان السيد خلف وكاظم إسماعيل گاطع وغيرهم إلا آن لشعر النواب ميزة ينفرد بها عن هؤلاء الشعراء كونهم آبناء بيئة جنوبية عاشوا وترعرعوا فيها وعايشوها في واقع حياتهم اليومية أما النواب فهو إبن مدينة بغداد عاش ونشأ فيها وفي منطقة الكرخ تحديداً ولا تربطه بالجنوب رابطة سوى رابطة الأنتماء للطبقة الفلا حية المسحوقة والتي كانت المبادئ التي يعتنقها تدافع عنها، لذا إلتصق النواب وعشق الريف الجنوبي وحاول ومن خلال أصدقائه ومعارفه أن يتقن اللهجة الجنوبية وحتي من خلال معايشته التي قضاها في ألأهوار منذ عام 1959 وما بعدها حيث التصقت اللهجة الجنوبية بروح النواب وغدت جزء من زاده اليومي فطغت على معظم قصائده الشعرية الطافحة بالألم والثورة ضد الأقطاع وكل من يسبب الأذى للطبقة ألتي تعشقها وذاب وجدانيا فيها، النواب يكتب الشعر الشعبي بطريقة ما سمعه وعاشه في الأهوار من كلمات الرثاء والنواح والثورة والأصالة والحسچه.. إستعمل تعابير أناس الهور ولهجتهم، إندمجت روحه مع أرواحهم وأحس بمعاناتهم فصاغها شعرا عن لسانهم وأبدع فيها، مزج موروثه التاريخي والثقافي في نسج قصائده الجميلة، فهو يتذكر دموع بنات أبو فراس الحمداني وهن يبكين أباهن وقد تخيل كيف جرى دمعهن مختلطا بالكحل، وكذا قول جميل حين يقول:

وإذا ما تراجعنا الذي كان بيننا

جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل،

لكن شتان بين التغزل المترف والثورة، فيقول النواب في قصيدة (صويحب)

ميلن لا تنگطن كحل فوگ الدم

ميلن وردة الخزامة تنگط سم

جرح إصويحب إبعطابه ما يلتم

لا تفرح بدمنا لا يالگطاعي

صويحب من يموت المنجل إيداعي

ثم يقول

ودن على المكاحل يا مضايف هيل

غطنه بكحل دخله ومحبة ليل

نعم النواب أول شاعر مزج بشاعريته التاريخ والأصالة والتحديث في شعر جديد لم يألفه الريف ولم تألفه الحداثة الجديدة، مزج بين شعور مثقف يفكر بعقلية المدينة ولكن على لسان قروية ثُكلت بزوجها، وهذا النفس نراه مستمرا في قصائده التالية: .مضايف، هيل عشاير سعود،  مامش مايل، جد ازيرج، سفن غيلان، ويستمر في مزج الحداثة بالموروث الشعبي لأنسان الهور الذي حزنه مدمر لأنه ينبع من أعماق ذاته المملوءة بالعشق والثورة والأصالة وحكايا الدواوين، وفالات الصيد، والتنمر والمقاومة، يستغلها النواب كلها ليرسلها شعرا أخاذا ألفه الجميع رغم غرابة طرحه بهذا الأسلوب:

هاي أنه لحضنك لا تلم روحك

أضمك بالگصايب عين لتلوحك

يصويحب أفي الفيه لجروحك

يتلاگن عيون الذيب بشراعي

وأحاه.. شكبر ضحكات الأقطاعي

أو كأنه يصاحب ريفية (معيدية) تقف على قبر ابنها أو حبيبها لتخاطبه بكل حزن المعدان:

أنه أمك حرز جيتك دگوم إلها تلگاها

زلگ والروح ما بيها تشيل احمول دنياها

أروز الضيم أشيمها وأشيم الضيم وأتباها

وإجت للموت كل زينه تحني اجفوف موتاها

وگلك يا حرز روحي اوصلت حدها

هذا هو النواب، يغرق نفسه في عذابات الفلاحين ويندمج بصدق مع أحزانهم ويواكب مواقفهم النضالية ضد الأقطاع ليحملها مشعلا يضيئ به دروبهم نحو الطريق الممهد بأشلاء الضحايا والمسحوقين، نعم النواب يندمج حد النخاع مع من أحبهم ورفع راية الدفاع عن مصالحهم وأمالهم. من يقرأ شعر النواب يلفت انتباهه ظاهرة وخاصية تميز بها شعره وهي خلوه من ظاهرة الأنهزامية والتخاذل والتصبر والحث على الأنتظار والخنوع بل شعره مليء بالثورة والحركة والتمرد، الأمر الذي كان النواب قد إلتفت اليه منذ عام 1959و1960فكانت قصائده الثورية:

البد البد ابدمك يلقطاعي

صويحب من يموت المنجل ايداعي

جلد اقطاعي خيمتنه على عظام الحرامية

زلمنه تخوض مي تشرين حدر البردي تتنطر

زلمنه تحز ظلام الليل تشتل ذبحة الخنجر

زلمنه الما تهاب الموت تضحك ساعة المنحر

زلمنه تغني والخنجر على الشريان..على الميمر

الغزل في شعر النواب

أما الغزل في شعر النواب فهو غزل عاشق يذوب مع الحبيبة، يذوب مع الجمال، يصنع ألهة للجمال يتعشقها مصنوعة من بردي الهور وقصبه، ألهة بلون الكعيبة والخضيري وام سكه، ألهة بلون سمار بنات الهور وطيبتهن، ألهة قدماها في الهور حد خصرها وبيدها منجل (تحش) به البردي والقصب لتملأ به مشحوفها يختلط مع جمالها عطور المسك والمحلب والهيل والقرنفل وجوزة البوة:

شگد نده نگط على الضلع ونسيت أگلك يمته

شگد رازقي ونيمته

وشكثر هجرك عاشر اليالي الهوه وما لمته

إنته السحنت الليل بگليبي وكلت موش إنته

ثم يستمر النواب راسما صورا رقيقة رائعة:

مبروم برم الريزه يا ريان ومخوصر خصر لف العگل

كل چلمه منك نبعة البربين.. بالدلال ما تحمل ثگل

كيف خطر بفكر النواب أن يصف الهة الهور أم فاله ومنجل بهذا الوصف الرائع يصفها أنها مبرومة برم خيوط الحرير(الريزه) وأنها مخوصرة خصر لف العگل، إن أي ريفي سوف يفهم معنى أن يكون خصر الفتاة مخوصر كلف العگل لأن العقال يبرم ويلف بقوة لا يعرفها إلا من يرتديه، ثم كيف اختار النواب نبعة البربين للدلالة على غنج حبيبته، إذ أن نبعة البربين أو عود البربين إن أمسكت به وأردت أن توقفه فأنه ينكسر لطراوته، بربكم هل يوجد أجمل من هذه الأوصاف لأم شيلة سمراء الهور ورائعته، أما بقية قصائده في الغزل فصور مذهلة.

آما في قصيدة البنفسج فهو يرسم صورة تفوق صورة آحمد رامي الشاعر المصري الرقيق في قوله:

اللي شفتو أبل ما تشوفك عنيه

عمري ضايع يحسبوه ازاي عليه

فيقول النواب وما آجمل قوله:

چانن ثيابي علي غربه گبل جيتك

ومستاحش من عيوني

وفي الحقيقة لو كتبنا مئات الصفحات عن شرح قصائد النواب لم نوفه حقه فالنواب  ينفرد بصور شعرية لم يلتقطها غيره، تثير الجدل والخلاف بين عشاق شعره كقوله:

روحي ولا تگلها شبيچ وانته الماي

مگطوعه مثل خيط السمچ روحي

من يقرأ هذا المقطع الشعري يفهم منه أن روحه (مگطوعه) مثل خيط السمك، أي خيط هذا الذي يريده النواب؟ الخيط الذي يربط به السمك بعد صيده ليوضع في الماء، أم خيط صنارة السمك، بعضهم قال ان النواب قصد خيط السما أو (خويط الليلو) كما يسميه أهلنا في الجنوب، ولكن الحقيقة هي غير هذا, وإنما هو أن السمك الصغير لايسير مفردا بل على شكل جماعات (زرة) وهو مايطلق عليه خيط السمك، وعندما ترمي حجاراً في الماء أو يقترب أحد من الشاطئ فيشعر السمك بالخطر فيتفرق وحينها ينقطع الشكل الخيطي، كيف جاءته هذه الفكرة وكم راقب النهر ليرى خيط السمك هذا وهو يرميه بحجر فيراه يتفرق (ينگطع خيطه) لينقل لنا هذه الصورة الرائعة  (مگطوعه مثل خيط السمچ روحي )، ثم لم حلاوة الليل دائما (محروگه) والتي يشبه روحه بها، ربما لعدم وجود الضوء أو لنعاس الصانع أو إنشغاله بأمور أخرى أدت إلى (حرگ الحلاوه) ثم أخيرا اليأس من تحرك الحبيب وإشتعال روح الشوق فيه فيصفه النواب (بيا ثلج) اللي ما وجيت أو (يا تل جل) اللي ما وجيت كما قراءها أخرون.

التوريه في شعر النواب

من أجمل ما يقوله النواب في أشعاره هي إستعماله التورية في بعض قصائده، فعندما يريد أن يقول أن شعر حبيبته أشقر كما في الريل وحمد يقول:

ذري ذهب يامشط يالخلگك اشطوله

وعن ظهور الشيب في زلف المعشوق لطول الانتظار يقول:

والگيض إجانه وانگضه ورد گيض إجه وهم انگضه

والزلف هجرك فضضه ورد فضضه ومامش رجه

ويصف أحد أبطاله عند قتاله مع رجال الشرطة ألتي قدمت للقبض عليه

كل مهجة ثريه اتلاليك يمطيح نجمات الورشن

أي أن إصاباته كانت بالرأس لأن الشرطة كانت تلبس (السدارة) وتضع عليها نجمة من الألمنيوم (الفافون) الذي يسميه الجنوبيون الورشن. هذا ما عندي عن النواب, وقد أكون أطلت.  نعم كنت أريد أن أكتب أكثر عن النواب عن قصائده قصيدة قصيدة لكني إكتفيت بذلك لأني مهما كتبت عن النواب فلن أوفه حقه، فعذرا لأبي عادل من انسان أُعجِب به صغيرا وشاب على ذلك الأعجاب.