اخر الاخبار

أبقت وكالة موديز للتصنيف الائتماني على تقييم العراق طويل الأجل بالعملة المحلية والأجنبية عند Caa1 مع نظرة مستقبلية مستقرة، لكنها في المقابل حذّرت من تحديات بنيوية خطيرة تواجه الاقتصاد العراقي، يأتي في مقدمتها ضعف المؤسسات والحوكمة والاعتماد شبه الكامل للمالية العامة على عائدات النفط.

وفي تقريرها المفصّل، أوضحت موديز أن ما يقرب من تسعين في المئة من إيرادات الحكومة يأتي من قطاع الهيدروكربون، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر عرضة لتقلبات أسعار النفط، ولا سيما مع التوقعات التي تشير إلى انخفاض الأسعار خلال عامي 2026 و2027 مقارنة بالمستويات المسجلة بين 2023 و2025، وهو ما يمثل ضغطاً إضافياً على الموازنة وقدرة الدولة على تمويل نفقاتها.

عوامل سياسية متداخلة

وتربط الوكالة هذه التحديات بعوامل سياسية متداخلة، إذ ترى أن المشهد السياسي المتجه نحو التشرذم بعد انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2025 قد يعيد سيناريو التأخير في تشكيل الحكومة وإقرار الموازنة كما حصل بعد انتخابات 2021، في وقت تنتهي فيه الموازنة الثلاثية الحالية بنهاية 2025، ما يضع البلاد أمام احتمال فراغ مالي إذا لم يُحسم الاتفاق السياسي مبكراً. كما تتوقع موديز أن يصل العجز المالي إلى 7.4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، قبل أن يتسع إلى نحو 9% خلال عامي 2026 و2027، نتيجة تراجع أسعار النفط وارتفاع النفقات الحكومية. وتضيف الوكالة أن الدين الحكومي مرشح لتجاوز حاجز 60% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2026، مشيرةً إلى أن الاقتصاد، بعد انكماشه في 2024، سيشهد نمواً متواضعاً في 2025 قبل أن يتسارع إلى 4% في 2026 مع تعافي الإنتاج النفطي.

ورغم الصورة القاتمة، تعتمد النظرة المستقبلية المستقرة للعراق على جملة من العوامل المساندة، يأتي في مقدمتها أن تركيبة الدين الحكومي تميل إلى الكلف المنخفضة، إلى جانب امتلاك البنك المركزي احتياطيات قوية من النقد الأجنبي تمنحه قدرة أكبر على امتصاص الصدمات.

كما أن حجم الدين الخارجي الفعلي يبقى محدوداً، إذ إن الجزء الأكبر من الديون المتأخرة يعود لبلدان خارج نادي باريس ولا يجري تسديده حالياً، وهو ما يقلص مخاطر السيولة على المدى القريب رغم الاحتياجات التمويلية المتزايدة.

وتشير موديز كذلك إلى أن تقييم العراق ضمن مؤشر البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG) يقع عند مستوى منخفض جداً يعكس التعرض العالي للمخاطر البيئية والاجتماعية والضعف المؤسسي العميق الذي يسهم في خفض التصنيف الائتماني.

جرس انذار داخلي

وفي موازاة التحذيرات الدولية، أطلق الخبير الاقتصادي منار العبيدي جرس إنذار داخلياً، محذراً مما سمّاه "الوهم الاقتصادي" الذي يروّج لفكرة أن العراق قادر على تجاوز أزماته المالية تلقائياً أو من خلال حلول شكلية لا تمس أصل المشكلة.

ويؤكد العبيدي أن البلاد تتجه نحو "صعقة اقتصادية ومالية قريبة" ستفرض واقعاً لم يُستعد له بعد، بينما يواصل أصحاب القرار اتباع سياسات تقوم على التأجيل وتخفيف الصدمات عبر إجراءات قصيرة الأمد لا تعالج الخلل البنيوي.

ويرى العبيدي أن صانع القرار المقبل سيكون أمام مفترق طرق؛ فإما مواجهة الحقيقة عبر عمليات إصلاح جذرية تشمل إعادة هيكلة الإنفاق العام وتخفيض الالتزامات التشغيلية وإصلاح منظومة الدعم، وهي خطوات مؤلمة لكنها ضرورية، وإما اللجوء مجدداً إلى تأجيل الأزمة من خلال إصدار نقدي إضافي أو زيادة الاستدانة، وهي حلول تزيد المشكلة تعقيداً وترحّلها لسنوات مقبلة.

تأجيل وتهدئة

ويشير العبيدي إلى أن الحكومة المقبلة تبدو حتى الآن متجهة نحو نهج التأجيل والتهدئة الإعلامية، مقدمةً صورة وردية لا تعكس الواقع الاقتصادي. كما يلفت إلى أن من ينتقد هذا المسار يُتهم مباشرة بالسلبية أو التضخيم، بينما الحقيقة أن الاقتصاد لا يُصلح بالإنكار. ويوضح أن الأزمة في العراق ليست مرتبطة حصراً بملف الرواتب كما يعتقد البعض، بل تشمل انهيار المنظومة الصحية وتراجع جودة التعليم وتدهور الأمن المائي والغذائي واستنزاف الموارد المالية دون بناء بدائل اقتصادية حقيقية، في ظل اعتماد المجتمع شبه الكامل على الدولة مقابل غياب دور إنتاجي فعّال.

ويختتم العبيدي تحذيراته بالقول إن الاستمرار في سياسة التأجيل والاستدانة وتوسيع الإنفاق الاستهلاكي لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشكلات ودفعها إلى المستقبل حيث ستعود أكبر وأقسى وأكثر خطورة، مشدداً على أن الحل الحقيقي يكمن في الإصلاح الجاد والعميق مهما كانت كلفته، لأن الاستدامة الاقتصادية لا تتحقق عبر الشعبية بل عبر القرارات الصعبة التي تؤسس لمستقبل أفضل.