اخر الاخبار

لم تدّخر القوى المتنفذة المسؤولة عن خراب البلاد، جهداً في السعي لفرض وصايتها على الفضاء العام والتضييق على الحريات، من بغداد والحلة وكربلاء وصولا الى الناصرية والبصرة مؤخراً.

فقد شهدت هذه المدن موجات متكررة من الانتقاد والملاحقة والتهجم على الحفلات الغنائية والفعاليات الاجتماعية والثقافية، في إطار توظيف الخطاب الديني لإقصاء الآخر وتحجيم الحريات الفردية.

ويقدم الرأي العام تفسيرات متعددة لسبب حماسة القوى الدينية ضد الأنشطة العامة هذه الأيام، حيث يرجح طيف منها محاولة هذه الجهات اصطناع استقطاب اجتماعي جديد، في لحظة سياسية مأزومة بفعل نتائج الانتخابات. بينما عبّر آخرون عن مخاوف جدية من استمرار تأويل الفقرات الضامنة للحريات في الدستور العراقي.

وقبل يومين قدّم المحامي ضرغام البعاج إخباراً إلى محكمة تحقيق البصرة، طالب فيه بإيقاف حفل غنائي، يعتزم الفنان محمد عبد الجبار إقامته هناك قبل نهاية الشهر الجاري.

وطبقاً للإخبار فإنه "بتاريخ 27 تشرين الثاني تُقام حفلة ماجنة و(غناء ورقص) في منتزه (البصرة لاند) بحضور المطرب محمد عبد الجبار، وان مثل هكذا حفلات تسيء للمبادئ والشعائر الحسينية، وتورث ضغائن طائفية لا نعرف من يكون خلفها".

وأضاف أن "هذه الحفلة تشكل فعلا اجراميا يتناسب مع خرق الآداب والذوق العام، وكذلك تشكل جريمة وفق أحكام المادة 373 من قانون العقوبات العراقي المرقم 111 لسنة 1969"، مطالبا محكمة تحقيق البصرة بتدوين أقواله بهذا الصدد.

وكانت محافظة ذي قار قد شهدت، قبل أيام، جدلاً حول الفعاليات الفنية، وتحديدا حفل الفنان محمد عبد الجبار وعدد من الفنانين، ضمن فعالية ترويجية لمشروع استثماري، رغم تأكيد اقتصار الحفل على اغان وطنية.

افلاس سياسي واجتماعي

وللحديث اكثر، قال الأكاديمي وائل منذر إن هذا الذي تشهده مدن العراق، يعكس محاولة واضحة من بعض قوى الاسلام السياسي لفرض وصاية على المجتمع، وتكريس لون واحد من التفكير والسلوك، رغم تعددية المجتمع وتنوع بناه الثقافية والمدنية.

وأضاف وائل في حديث لـ"طريق الشعب"، أن هذه القوى “تتعامل مع المجتمع بوصفه كتلة ذات لون واحد، وتعتبر نفسها صاحبة الحقيقة المطلقة، وتسعى إلى فرض رؤاها على الجميع، في إطار مشروع أوسع يهدف إلى تأطير المجتمع ومنع أي مظاهر أو أنشطة تُعبّر عن رأي مختلف”.

ونبّه الى أن ما يحدث يمثل “مسعىً لفرض أمر واقع بالقوة الاجتماعية لا بالقانون، رغم أن الحفلات والفعاليات والمهرجانات تُقام بعد الحصول على موافقات رسمية من الجهات المعنية، سواء وزارة الثقافة أو الحكومات المحلية".

وتابع أن القوى المذكورة “لا تكتفي بمحاولة فرض وصايتها على المجتمع، بل تتجاوز ذلك إلى محاولة فرض إرادتها على الدولة نفسها، عبر رفضها الالتزام بالقواعد القانونية التي تمنح التراخيص وتكفل الحريات”.

واعتبر أن هذا النهج جزء من “خطوات منهجية تسعى لإضفاء صبغة أحادية على المجتمع، وإقصاء أيّ أصوات أو أنشطة لا تتوافق مع توجهاتها الدينية أو السياسية”.

وفي ما يتعلق بدور الدولة، شدد منذر على أن "مؤسسات الدولة، مطالبة بالتصدي لهذه المحاولات، خاصة أن بعض الحملات تتضمن تهديدات مبطنة، وأخرى صريحة باستخدام العنف، ضد القائمين على الأنشطة الثقافية والاجتماعية”.

وأوضح أن “التهديد يُعد جريمة وفق القانون، ويجب على الادعاء العام والجهات الأمنية تحريك دعاوى ضد مطلقي مثل هذه التهديدات”، معتبراً أن التهاون في ذلك “يفتح الباب أمام فوضى مجتمعية، وتوسّع في تطبيق القانون خارج إطار الدولة”.

وعما اذا كان هذا التوجه يعبر عن افلاس سياسي، اكد أن "جزءاً كبيراً من هذه الحملات يحمل دافعاً سياسياً واضحاً، يتمثل في محاولة بعض القوى إثبات حضورها وقوتها في مواجهة الدولة ورؤى المجتمع المتعدد، وفرض رأي واحد باعتباره الرأي المهيمن”.

وحذّر من أن تجاهل الدولة لهذه الممارسات “سيؤدي إلى تشجيع جهات اخرى، وتكرارها مع أي نشاط لا ينسجم مع توجهات هذه الجهات، ما ينقل المجتمع من إطار الدولة إلى اللادولة، ويعود به إلى ما قبل نشوء الدولة الحديثة”.

واختتم منذر بالقول إن العودة إلى منطق “القوى التي تأخذ تطبيق القانون بيدها” في القرن الحادي والعشرين “يشكل تراجعاً خطيراً"، محذرًا من ان "السماح بتكريس هذا النهج يقوّض سلطة القانون، ويفتح الباب أمام نزاعات وفوضى".

يذكر أن محافظة كربلاء شهدت عام 2019 جدلاً واسعاً في الأوساط الشعبية والسياسية العراقية، بعدما تم افتتاح بطولة غرب آسيا، التي أقيمت على ملعب كربلاء الدولي، بعزف فتاة النشيد الوطني العراقي على آلة الكمان، فضلاً عن رقص بعض السيدات خلال الحفل.

وأثار الحفل حينها حفيظة مؤسسات دينية، منها ديوان الوقف الشيعي الذي رفع دعوى قضائية على اتحاد كرة القدم، بسبب تنظيمه الحفل الذي رآه مخالفاً لضوابط وخصوصية المدن المقدسة والأخلاق والآداب العامة.

وبداعي "القدسية" ايضا، أثار مهرجان بابل الدولي للثقافات والفنون عام 2021 الجدل، ما أدى إلى إلغاء الفعاليات الغنائية بناءً على "دعاوى من طلبة علوم دينية وشخصيات اجتماعية"، بدعوى الحفاظ على "قدسية" المحافظة، ما أشعل حينها اعتراضات فنية وثقافية على إلغاء الفقرات الغنائية من المهرجان. 

محاولة فرض نمط اجتماعي واحد 

من جهته، قال الناشط السياسي منتظر محمد إن أزمة الحفل أخيرا في ذي قار، ليست سوى انعكاس لصراع أعمق حول هوية المحافظة، ومحاولة بعض القوى السياسية إعادة تشكيل صورتها بما يتعارض مع تاريخها الثقافي والمدني.

وأضاف محمد في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن “ذي قار، التي عُرفت عبر عقود بأنها مدينة الحضارة والفن والتمرّد وفضاء التنوع، تواجه هي أيضا مسعى واضحاً من بعض جهات الاسلام السياسي، لتحويلها إلى بيئة منغلقة تُقيَّد فيها الحريات، ويُفرض عليها نمط اجتماعي واحد، لا ينسجم مع تاريخها ولا مع نسيجها الاجتماعي الواسع”.

وتابع أن “الاعتراضات التي خرجت ضد الحفل تحت عناوين مكافحة الفساد أو صون الأخلاق، ليست إلا جزءاً من خطاب ممنهج، يهدف إلى تضييق الفضاء المدني. في حين أن الكثير من تلك الجهات تفتقر إلى المصداقية في أطروحاتها، خاصة وأنها لم تقدّم خلال السنوات الماضية، نموذجاً يُحتذى في حماية القيم أو مكافحة الفساد”.

وأشار إلى أن ذي قار “مدينة غنية بتنوعها الفكري والديني والسياسي، وتضم أطيافًا متعددة من الانتماءات والاتجاهات، وهو ما منحها خصوصيتها المميزة عبر السنوات”، مؤكّداً أن “محاولة فرض وصاية سياسية أو دينية على المجتمع تمثل تجاوزاً على إرادة الناس، واعتداءً على حقهم في الاختلاف، وفي ممارسة حياتهم اليومية دون تقييد غير مبرر”.

ويرى الناشط السياسي أن هذه الاحتكاكات تعكس “صراعاً متجدداً بين رؤيتين: الأولى تسعى لتكريس المدنية والحريات الفردية، والثانية تعمل على إعادة إنتاج أنماط قديمة من السيطرة والتحكم الاجتماعي، مستندة إلى خطاب ديني مؤطّر سياسياً”.

وخلص محمد الى تأكيد أن أبناء ذي قار “أثبتوا مراراً أنهم قادرون على الدفاع عن مدينتهم، وأنهم لن يسمحوا لأي جهة بفرض وصاية على حياتهم”، داعياً القوى السياسية إلى “احترام إرادة المجتمع، والابتعاد عن استخدام الدين كأداة سياسية، والتركيز بدلاً من ذلك على تقديم حلول حقيقية لمشكلات المحافظة".

ابتزاز سياسي تحت غطاء ديني

من جانبه، أكد الناشط المدني صادق السهل أن الأحداث الأخيرة تكشف عن بُعدين أساسيين، يقفان خلف محاولات منع الفعاليات المدنية والفنية في المحافظة، مشيراً إلى أن الأمر لم يعد مجرد اعتراض ديني، بقدر ما تحوّل إلى أداة سياسية تسعى بعض الجهات إلى توظيفها لكسب التعاطف الشعبي.

وقال السهل في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “بعض الأحزاب ذات الطابع الإسلامي دأبت على إثارة حملات ضد الحفلات والأنشطة المدنية في المحافظات الجنوبية، ولاحظنا ذلك أيضا في بغداد والحلة والبصرة وغيرها، في إطار محاولة منهجية لبناء رصيد سياسي، عبر رسائل دينية موجّهة”.

وأشار إلى وجود “مؤشرات على ممارسة ابتزاز تجاه بعض رجال الأعمال في الناصرية، بينها مطالب مالية ووحدات سكنية لصالح أحد الأحزاب”، لافتاً إلى أن هذه الجهات انتقلت إلى استثمار الخطاب الديني، بعدما فشلت محاولاتها المالية في تحقيق أهدافها.

وواصل القول أن البعد الثاني يتمثل في “الاستهداف المباشر للحريات الفردية ومحاولة الالتفاف على الدستور عبر الاستناد الانتقائي إلى المادة الثانية، مع تجاهل المواد اللاحقة التي تكفل حقوق الجميع بما لا يتعارض مع حقوق الإنسان”، مؤكداً أن العراق ملتزم أيضاً بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وهو ما يجعل هذه الممارسات “تجاوزاً صريحاً للضمانات القانونية والدستورية”.

وأوضح السهل أن ما يجري ليس جديداً، إذ اعتادت بعض القوى السياسية توظيف الخطاب الديني لتقليص هامش الحريات المدنية، لكن ما يميز موقف الناصرية هذه المرة هو “الرفض الشعبي الواسع”، حيث أظهر الأهالي تفاعلًا لافتًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، وشكّلوا حملة مضادة واضحة لم تشهدها محافظات أخرى بالزخم ذاته.

وبيّن أن هذا الرفض اتخذ أشكالًا مختلفة، من التفاعل الإعلامي إلى الاستعداد للنزول إلى الشارع عند الحاجة، مشيراً إلى أن هذا النمط من النشاط أصبح “سلوكاً ثابتاً"، لدى الشباب، في مواجهة القرارات والتوجهات التي تُعد جائرة أو مقيّدة للحريات.

وختم السهل حديثه بالإشارة إلى أن التفاعل الشعبي، يعكس رغبة واضحة لدى الأهالي بالمشاركة في الفعاليات المدنية، مستشهدًا بالنفاد السريع لتذاكر إحدى المناسبات، خلال أقل من ساعة، وهو ما اعتبره “رسالة بليغة” حول توجهات الشارع، ورغبته في حماية فضائه المدني".