شهد العراق خلال العامين الأخيرين خسارة مليون شجرة، في مؤشر جديد على التدهور البيئي الذي يعاني منه البلد، بحسب ما أعلن مرصد "العراق الأخضر" المتخصص بشؤون البيئة. وتأتي هذه الخسائر نتيجة تراكم عوامل طبيعية وبشرية، من الجفاف وانتشار الأمراض إلى ممارسات اقتلاع الأشجار وإزالة الغطاء النباتي بحجة مشاريع خدمية وتوسعة الطرق.
خسارة مليون شجرة
وذكر مرصد "العراق الأخضر" المتخصص بشؤون البيئة في بيان حصلت عليه "طريق الشعب"، أن "العراق خسر في العامين الأخيرين مليون شجرة بسبب أزمة الجفاف التي تعاني منها غالبية المحافظات، ما أدى إلى تيبس تلك الأشجار وتكسرها ومن ثم موتها بعد إصابتها بالأمراض كالأرضة، وهذا ما حصل في المحافظات الجنوبية".
وأضاف أن "هناك سبباً آخر وهو قطع المياه عن بعض البساتين من أجل التهيؤ لقطع الأشجار وبيعها لمحال شوي الأسماك ومثل هذه الحالة تكررت في محافظتي نينوى وواسط"، مشيراً إلى أن "أكثر هذه الحالات موجودة في محافظة ديالى نظراً لوجود أشجار الحمضيات التي تضيف نكهة إلى الأسماك المشوية".
وأوضح البيان، أن "المشاريع الخدمية استهلكت العديد من الأشجار وغالبيتها كانت معمرة وتوجيه المقاولين بزرع أشجار صغيرة بدلاً منها في أماكن أخرى، وكان لبغداد النصيب الأكبر من هذه العمليات"، منوهاً إلى أن "زرع أشجار جديدة هو إجراء غير ذي جدوى لأنها تحتاج إلى عمليات سقي واهتمام وسنوات من أجل ان تنمو وتكبر لتؤدي وظيفتها لتكون شجرة ظلية أو مصدا للرياح الغبارية والرملية".
وأشار المرصد إلى أن "البعض افتعل حرائق في البساتين ما أدى إلى اشتعال النيران في العديد من الأشجار، لإفراغ المساحة تماماً وتهيئها للبيع كقطع أراضي للمواطنين مستفيدين من القرارات الحكومية، وهذا الامر حصل مؤخراً في أحد بساتين منطقة الدورة، جنوبي بغداد".
وتابع أن العديد من الأشجار اقتلعت لإقامة مشاريع تجارية أو سكنية دون أن تعوض بأشجار أخرى، واستغلال جميع المساحة التي يقام عليها المشروع والتخلص من أي مناطق او مساحات خضراء في تلك المناطق".
وطالب المرصد الجهات المعنية سواء الرقابية منها أو التنفيذية، بـ "متابعة هذه المواضيع والحرص على ما موجود من أشجار، وإمكانية زيادتها خلال المرحلة المقبلة من خلال توزيعها على المواطنين لزرعها في حدائقهم أو في الشوارع والاهتمام بها من أجل أن تنمو وتكبر لتكون مفيدة في المراحل المقبلة".
ما علاقة جفاف الأهوار؟
يوضح الناشط البيئي علي قاسم أن أهمية الأشجار لا تقتصر على التجميل أو تلطيف الجو كما يظن البعض، بل تمتد لتؤثر مباشرة في تقليل الاحتباس الحراري، الذي يُعد أحد أبرز مسببات التبخر وجفاف الأراضي الرطبة والأهوار. ويشير إلى أن العلاقة بين ارتفاع درجات الحرارة وجفاف المسطحات المائية علاقة طردية وواضحة؛ فحتى في السنوات التي لم تنخفض فيها معدلات الأمطار كثيرا، كانت درجات الحرارة التي تتجاوز الخمسين مئوية كفيلة بتسريع عمليات التبخر، ما أدى إلى جفاف الأهوار وغياب التنوع البيئي والكائنات التي تعتمد عليها.
ويشرح قاسم لـ"طريق الشعب"، أن وجود مساحات شاسعة من الأشجار كان يمنح مناطق الأهوار نسائم باردة ورطبة، خصوصًا في ساعات المساء، ما يحد من التبخر ويحافظ على التوازن البيئي. لكن هذا الغطاء النباتي يتعرض اليوم لتهديدات كبيرة، أبرزها قطع الأشجار خلال مواسم الانتخابات ومشاريع الإعمار، وهي ممارسات وصفها بالـ"شائكة" وتحتاج إلى تدخل حكومي حازم يماثل ما يُتخذ من إجراءات تجاه ملف التجاوزات.
ويضيف أن قطع الغطاء النباتي المتراكم عبر سنوات يعني خسارة "سنوات ضوئية" من الجهود البيئية التي لا يمكن تعويضها بزراعة موسمية أو مبادرات محدودة.
كما ينتقد قاسم أساليب بعض المشاريع التي صفرت الشوارع من الأشجار، رغم وجود نماذج عالمية تُظهر إمكانية تنفيذ الأبنية والطرق دون المساس بالغطاء الأخضر، مع إعادة تصميم المسارات بدلًا من القطع الجائر.
ويحذر الناشط البيئي من أن المسألة ليست مجرد رفاهية، بل ضرورة صحية، إذ إن اختفاء الأشجار يؤدي إلى اختفاء الطيور والحشرات النافعة، ما يخلّ بالتوازن الطبيعي ويزيد من انتشار الذباب والبعوض، وهما من أهم ناقلات الأمراض. فالأشجار كما يقول ليست فقط مصدر أوكسجين وظلال، بل منظومة حياة كاملة توفر مكافحة بيولوجية طبيعية للمجتمع.
مشاريع التوسعة!
وقالت الناشطة البيئية نجوان علي، إنّ أزمة فقدان الأشجار في العراق لم تعد محصورة بعوامل الجفاف أو السلوكيات الفردية فحسب، بل اتسعت لتشمل إجراءات حكومية مباشرة أسهمت بشكل واضح في تفاقم المشكلة، خصوصاً ما يتعلق بحملات إزالة الأشجار بحجة توسعة الطرق وتنفيذ مشاريع خدمية.
وأضافت نجوان في حديثها لـ"طريق الشعب"، أن "الفترة الأخيرة شهدت اقتلاع العديد من الأشجار المعمرة في بغداد وعدد من المحافظات، ضمن خطط لتطوير الشوارع أو إنشاء بنى تحتية جديدة، من دون وجود رؤية واضحة لتعويض هذه الثروة الحيوية".
وبيّنت أن "هذه العمليات لم تُراعِ القيمة البيئية للأشجار التي تحتاج عقوداً لتنمو، ولا الدور الذي تلعبه في خفض حرارة المدينة، وتخفيف التلوث، وتقليل العواصف الترابية".
واشارت الى أن "المفارقة المؤسفة أن استبدال هذه الأشجار غالباً ما يكون شكلياً فقط، إذ يجري زرع شتلات صغيرة على أطراف الطرق أو في أماكن بعيدة من دون توفير شبكات سقي أو متابعة، ما يعني أن معظمها يموت خلال الأسابيع الأولى".
وزادت أن "هذا النهج لا يعكس فهماً لأهمية التوازن البيئي الحضري، ولا يعالج الضرر الناتج عن إزالة الأحزمة الخضراء في مدن تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في درجات الحرارة".
مناطق ساخنة وجافة
وتابعت نجوان أن "توسعة الطرق بالطريقة الحالية خلقت مناطق حضرية أكثر جفافاً وسخونة، وفاقمت ازدحام الغبار في الأحياء، وأفقدت السكان أحد أهم عناصر الراحة البيئية"، مؤكدة أن "المدن الحديثة التي يُحتذى بها تعمل على زيادة رقعتها الخضراء بالتوازي مع التطوير العمراني، وليس القضاء عليها".
ودعت في ختام الجهات الحكومية إلى "وضع سياسة وطنية لحماية الأشجار، تتضمن إلزام المؤسسات بتعويض أي شجرة تُزال بأخرى مماثلة وبمتابعة حقيقية، إضافة إلى إشراك المجتمع والناشطين البيئيين في رسم هذه السياسات لضمان حماية ما تبقى من المساحات الخضراء".