اخر الاخبار

تحت شمس لاهبة ورياحٍ محملة بالملح والرمال، تقف أور وبابل كشيخين هرِمين يحاولان الصمود في وجه الزمن. جدرانهما الطينية تتشقق بصمت، والزقورات التي كانت يوما معابد للآلهة، باتت اليوم تصارع العواصف لاجتياز فصل جديد من البقاء.

حيث تُهدد موجات الجفاف والتصحر بطمس ملامح أولى الحضارات التي عرفتها البشرية، فيما يحذر مختصون من أن ما يتعرض له الإرث الرافديني ليس مجرد تآكل في الآجر، بل تآكل في ذاكرة الإنسانية نفسها.

آثارنا تحتاج إلى جهد حكومي ودولي

ويحذر الخبير الآثاري عامر عبد الرزاق من محافظة ذي قار من التأثيرات الخطيرة التي تُحدثها التغيّرات المناخية على المواقع الأثرية في العراق، ولا سيما في مناطق الوسط والجنوب التي تضم مواقع أثرية تُعدّ من أهم الشواهد على الحضارة الإنسانية.

وقال عبد الرزاق لـ"طريق الشعب"، إن "الظروف الجوية والتغيّرات المناخية أثّرت بشكل كبير على الإنسان، وكذلك على المواقع الأثرية، خصوصاً أن معظم هذه المواقع في وسط وجنوب العراق مشيّدة من الطين أو الطابوق المفخور، وهي مواد تتأثر سريعاً بالعوامل المناخية القاسية".

وأوضح أن "سنوات الجفاف الأخيرة وقلة الأمطار أدتا إلى هبوب رياح قوية محملة بالأتربة والرمال، إضافة إلى ارتفاع معدلات الرطوبة وازدياد نسب الملوحة، وهي عوامل تسببت بتآكل جدران الأبنية الأثرية، خاصة في مواقع مهمة مثل مدينة أور وبابل، ما أثر على الزقورات والهياكل المبنية من الآجر".

وأشار الخبير الآثاري إلى أن "رئاسة الوزراء شكلت مؤخراً لجنة لحماية المواقع الأثرية من آثار التغيّر المناخي، إلا أن الجهود الحالية لا تزال دون المستوى المطلوب"، مؤكداً أن "العراق بحاجة إلى جهد حكومي ودولي أكبر لحماية هذا الإرث الإنساني العظيم".

ودعا عبد الرزاق إلى "تعاون دولي واسع، ولا سيما من منظمة اليونسكو والمنظمات العالمية المعنية بالتراث، للوقوف إلى جانب العراق في الحفاظ على تاريخه وآثاره المهددة بالاندثار"، مشدداً على أن "هذه المواقع لا تمثل العراق وحده، بل هي جزء من تاريخ الإنسانية جمعاء".

كما طالب الحكومة بأن تكون "أكثر سخاء في دعم وزارة الثقافة والهيئة العامة للآثار والتراث"، مبيناً أن "الموارد المالية المتاحة للهيئة محدودة جداً، فيما تتطلب أعمال الصيانة والترميم والحفظ مئات الملايين من الدولارات".

وتابع عبد الرزاق حديثه بالقول: "ينبغي على الحكومة أن ترصد مبالغ كبيرة لإنقاذ المواقع الأثرية من التدهور، فالحفاظ على هذا التاريخ الإنساني مسؤولية وطنية وعالمية في آن واحد".

وحذرت وكالة رويترز من خطر متصاعد يهدد الإرث الحضاري للعراق، مهد أقدم حضارات التاريخ، إذ تقف المدن السومريةوالبابلية من أور إلى بابل على حافة الزوال، وسط تصاعد موجات الجفاف وارتفاع نسب الملوحة والعواصف الرملية التي تجتاح الجنوب.

وذكرت الوكالة في تقريرها الصادر بتاريخ 30 تشرين الأول 2025، أن مسؤولين عراقيين وخبراء آثار أطلقوا تحذيرات عاجلة بشأن الأضرار التي تتعرض لها المواقع التاريخية، مؤكدين أن تغير المناخ أصبح اليوم العدو الأكبر لآثار بلاد الرافدين.

وأشار التقرير إلى أن معبد زقورة أور التاريخي في محافظة ذي قار، والذي شُيّد قبل أكثر من أربعة آلاف عام لعبادة إله القمر “نانا”، يشهد تآكلاً متزايداً في أجزائه الشمالية، نتيجة عوامل التجوية والتغيرات المناخية، ما ينذر بفقدان واحد من أهم المعالم الأثرية التي تجسد حضارة وادي الرافدين.

وبين التقرير أن العواصف الرملية وارتفاع درجات الحرارة وتراجع الإطلاقات المائية أسهمت مجتمعة في تسريع عملية التدهور، وسط دعوات من مختصين بضرورة التحرك السريع لحماية المواقع الأثرية وتأهيلها قبل أن تفقد ملامحها التاريخية بشكل كامل.

أور وبابل

وقال ياسين وليد، مهتم بالشأن التراثي، إن "أور وبابل ليستا مجرد مدينتين أثريتين، بل هما رمزان لهوية العراق والعالم القديم".

وأضاف أن أور تُعد من أقدم المدن في التاريخ، إذ تعود إلى حوالي 3800 ق.م، وكانت مركزًا دينيًا واقتصاديًا مهمًا في زمن السومريين. وذكر أن هذه المدينة تضم الزقورة العظيمة، التي تُعد نموذجًا مدهشًا للعمارة الدينية القديمة، وشهدت ولادة النظام الإداري والكتابة المسمارية.

وأشار وليد في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى أن بابل شهدت ازدهارا ملحوظا في حضارة بلاد وادي الرافدين، خاصة في عهد الملك حمورابي، مؤسس أول مجموعة قوانين مكتوبة في التاريخ. وأضاف أن بابل اشتهرت بالجنائن المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، وكانت مركزًا للعلم والفلك والرياضيات، ومهدًا للتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب.

وأوضح أن أور تمثل بداية الحضارة، بينما تمثل بابل ذروتها الفكرية والمعمارية، وأن العلوم والمعارف التي نشأت فيهما انتقلت لاحقًا إلى الفرس واليونان، إذ تأثروا بعلوم البابليين في الفلك والرياضيات وبفكرة القانون المكتوب والإدارة، ثم نقلها الإغريق إلى أوروبا لتصبح أساس الحضارة الغربية الحديثة.

وأكد أن "أور وبابل تعد الجذور الأولى لكل حضارات العالم".

وحول أثر فقدان هذه المواقع على فهم تاريخ البشرية القديم، قال وليد إن "فقدانها يعني فقدان ذاكرة البشرية نفسها"، مضيفاً أن ذلك سيؤدي إلى خسارة الأدلة المادية التي توضح كيف بدأت المدن وتطورت القوانين والديانات والكتابة، وسيصعب على العلماء ربط المراحل الزمنية بين الحضارات اللاحقة والرافدينية.

وذكر أن العراق سيخسر جزءا من هويته الثقافية العالمية، لأن هذه المدن هي جذور مفهوم الدولة والمجتمع، مشيرا إلى أن "ضياع أور وبابل هو كضياع صفحات من كتاب البشرية الأول".

وأضاف وليد أن مشكلة الملوحة والرمال تعد من أخطر التهديدات البيئية الحالية على المواقع الأثرية، حيث تتسرب الملوحة إلى الطابوق الطيني القديم، فتتبلور الأملاح داخله مسببة تآكل البنية وتفتت الجدران. وذكر أن العواصف الرملية تغطي المعالم الأثرية بطبقات ترابية، ما يؤدي إلى تآكل النقوش وفقدان التفاصيل الدقيقة، مؤكدًا أن ارتفاع الحرارة وتراجع مناسيب المياه الجوفية جعل المواد الأثرية أكثر هشاشة وتشققًا.

وحول المدة الزمنية المتوقعة لبقاء هذه المدن في حال استمرار التدهور، قال وليد إنه لا توجد أرقام دقيقة، لكن الخبراء يقدرون أن الخسائر الجسيمة قد تبدأ خلال 30–50 سنة إذا استمرت الملوحة والعواصف دون معالجة. وأضاف أن بعض الجدران قد تنهار جزئيًا خلال عقد أو عقدين في حال غياب الترميم الدوري، مؤكدًا أن بقاء المدن بشكلها الحالي على المدى الطويل، أي خلال 100 سنة، مهدد جدًا ما لم تتدخل الجهات المختصة وتوفر حماية فعالة.

وتواجه مدينة أور الأثرية في محافظة ذي قار خطرا آخر يهدد معالمها التاريخية، وعلى رأسها الزقورة والمقبرة الملكية، بسبب التغيرات البيئية والمناخية التي تضرب الجنوب منذ سنوات.

تحذير من خسارة الذاكرة الإنسانية

يقول المختص بالآثار والتراث، حسنين يوسف، إن الزقورة تشهد "تآكلا واضحا" في طبقاتها الطينية نتيجة اجتماع الرياح والكثبان الرملية، موضحاً أن الطبقة الثالثة من البناء تعرضت لتلفٍ واسع، بينما بدأت علامات التدهور تظهر على الطبقة الثانية أيضًا، الأمر الذي قد يؤدي، بحسب تقديره، إلى تهديد بقاء المعلم التاريخي خلال العقود المقبلة.

ويضيف يوسف أن المقبرة الملكية القريبة من الزقورة تواجه هي الأخرى تدميرا تدريجيا بسبب تراكم الأملاح داخل جدرانها الطينية، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة تفاقمت بفعل الاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة، ما تسبب في تفكك البنية المعمارية القديمة.

ويشرح المختص أن ارتفاع درجات الحرارة وجفاف الأنهار زادا من ملوحة التربة والمياه في الجنوب العراقي، خاصة عند التقاء دجلة والفرات، وهو ما جعل المواد الطينية التي بُنيت منها المواقع الأثرية أكثر هشاشة وقابلية للتشقق والانهيار.

ويحذر يوسف من أن استمرار الإهمال والتأخر في أعمال الترميم سيؤدي إلى خسارة "جزء ثمين من الذاكرة الإنسانية"، فالمعالم السومرية في أور لا تمثل تراث العراق فقط، بل تعد شاهدًا على بدايات الحضارة البشرية في وادي الرافدين.

ويتابع بالقول إن تقارير حديثة صادرة عن منظمات دولية، بينها اليونسكو، تؤكد أن التغير المناخي بات الخطر الأكبر الذي يهدد المواقع الأثرية الطينية حول العالم، داعياً إلى "تدخل عاجل وخطط ترميم مستدامة وفق المعايير الدولية" لحماية أور من الزوال"