اخر الاخبار

مع الساعات الأولى لهطول الأمطار، عادت شوارع بغداد ومحافظات أخرى إلى المشهد السنوي ذاته: مياه راكدة، طرقات مشلولة، اختناقات مرورية تمتد لعدة كيلومترات، وأحياء تتحول إلى ما يشبه البرك المفتوحة. ورغم إعلان الجهات الخدمية حالة الاستنفار القصوى كل عام، فإن أول موجة مطر عادةً ما تكون كافية لتعرية حقيقة هشاشة البنى التحتية، خصوصاً شبكات الصرف الصحي التي لم تعد قادرة على التعامل مع أبسط معدلات الهطول.

هذا المشهد المتكرر يعيد إلى الواجهة التساؤل حول: لماذا تتحول نعمة المطر إلى أزمة وطنية في بلد يعاني أصلاً من واحدة من أسوأ موجات الجفاف في تاريخه الحديث؟ وكيف يمكن للعراق أن يجني فوائد الأمطار المأمولة دون أن يدفع ثمنها تعطلاً وخسائر مادية وأضراراً في الممتلكات؟

شبكات منهارة

تُظهر الأمطار كل عام انهياراً واضحاً في جاهزية شبكات الصرف الصحي، التي يعود تأسيس جزءٍ كبير منها إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، دون أن تشهد تحديثاً يتناسب مع تضاعف السكان واتساع المدن. وتؤكد تقارير رسمية أن معظم هذه الشبكات تعمل فوق طاقتها، وتعاني انسدادات، ورداءة في مواد التنفيذ، فضلاً عن ضعف الصيانة السنوية التي يفاقمها تراكم النفايات داخل المناهل.

الخبراء يشيرون إلى فجوة كبيرة بين متطلبات الواقع وإمكانات البلديات. فمدن مثل بغداد تحتاج إلى مضاعفة طاقات محطات الرفع، وتوسيع شبكات الأنابيب، وإنشاء خطوط جديدة مخصّصة لتصريف مياه الأمطار فقط، الأمر الذي لم يتحقق منذ عقود. ومع توسع الأحياء السكنية العشوائية دون بنى تحتية مرافقة، تتفاقم المشكلة بشكل مستمر.

خسائر اقتصادية مباشرة

يقول الباحث الاقتصادي احمد عبد ربه، ان الأمطار لا تعني فقط تجمعات مائية، بل تتسبب أيضاً في خسائر يومية كبيرة، مشيرا الى ان تعطل الطرق يعني ارتفاع كلفة النقل وتأخر الحركة التجارية.

ويقول عبدربه، أن كل ساعة ازدحام إضافية في بغداد قد تكلّف الاقتصاد ملايين الدنانير نتيجة توقف الموظفين والقطاع الخاص والآليات والشاحنات. كما تتسبب الأمطار بضرر واسع على الأرصفة والمنازل المنخفضة عن مستوى الشارع، وعلى خطوط الكهرباء الأرضية، وتؤدي إلى زيادة أعطال السيارات.

ويشير الى انه غالباً ما تتحول شكاوى المواطنين إلى موجة غضب سنوية، يرافقها ارتفاع أصوات تطالب بمحاسبة الجهات المسؤولة عن مشاريع البنى التحتية التي لم تصمد أمام أول اختبار.

بلد عطِشٌ بحاجة لكل قطرة

المفارقة اللافتة أن العراق، الذي يعاني من مشاكل الغرق في المدن، يواجه في الوقت ذاته أزمة جفاف تعدّ الأخطر منذ قرن. فالمياه السطحية تناقصت بشكل كبير، والأنهار القادمة من دول الجوار شهدت انخفاضاً حاداً في الواردات، فيما تراجع خزين السدود إلى مستويات مقلقة في السنوات الأخيرة.

من الناحية المناخية، تُمثل الأمطار مورداً أساسياً لتعزيز المنسوب الجوفي، وتحسين رطوبة التربة، وتخفيف العواصف الترابية التي ضربت العراق بعنف خلال الأعوام الماضية. كما تُعد الأمطار عاملاً مهماً لدعم المواسم الزراعية في المحافظات الوسطى والجنوبية، التي تعتمد بدرجة كبيرة على الأمطار لتقليل الحاجة إلى الريّ السطحي.

لكن الاستفادة من هذه الأمطار تبقى محدودة في ظل غياب مشاريع حصاد المياه، وضعف إنشاء السدود الترابية، وعدم تطوير تقنيات خزن مياه الأمطار داخل المدن. ففي الكثير من الدول، تُجمع مياه الأمطار في خزانات عملاقة أو تُعاد تغذية الأحواض الجوفية بها. أما في العراق، فإن الجزء الأكبر منها يُهدر عبر المجاري أو يتجمع في الشوارع ويتسبب بمشاكل إضافية.

يشير مختصون إلى أن الحل لا يكمن في معالجة الظواهر الموسمية، بل في وضع خطة استراتيجية تمتد لسنوات، تتضمن: تحديث شامل لشبكات الصرف الصحي واستبدال الخطوط المتهالكة. وإنشاء خطوط موازية خاصة بمياه الأمطار (Rainwater Network) لتخفيف الضغط عن الشبكات الحالية، إلى جانب تطوير محطات الرفع وزيادة طاقتها الاستيعابية.

ويشدد المختصون على ضرورة إطلاق مشاريع حصاد مياه الأمطار للاستفادة منها في الزراعة أو تغذية المياه الجوفية، وفرض رقابة صارمة على النفايات ومنع رميها في المناهل والشبكات، معتبرين هذه الخطوات "استثماراً ضرورياً في بلد يشهد تغيرات مناخية حادة، ويحتاج إلى التكيف معها عبر تعزيز جاهزية بناه التحتية واستغلال موارده المائية بأفضل شكل ممكن".