في الوقت الذي يشهد فيه العراق توسعا متسارعا في التحول الرقمي داخل مؤسسات الدولة، تقف البلاد أمام تحد متزايد في حماية بياناتها من الهجمات الإلكترونية التي باتت أكثر تعقيدا وتكرارا؛ فمنذ دخول الحواسيب والأنظمة الرقمية إلى الدوائر الحكومية بعد عام 2003، تحولت البيانات الرسمية والمعلومات الشخصية للمواطنين إلى هدف ثمين للقراصنة، وسط ضعفٍ واضح في البنية التحتية التقنية وغياب استراتيجية وطنية موحدة للأمن السيبراني.
لقد شهدت السنوات الأخيرة سلسلة من الاختراقات التي طالت مواقع وزارات ومؤسسات رسمية، وأسفرت عن تسريبات ضخمة لمعلومات حساسة، لتكشف عن واقع هشٍّ في منظومة الحماية الرقمية، وتطرح تساؤلات حول مدى جاهزية العراق لمواجهة الحروب الإلكترونية الحديثة.
في عام 2019 تعرض نحو 30 موقعا حكوميا للاختراق، شملت وزارات الداخلية والدفاع والصحة والخارجية، في أكبر عملية استهدفت مؤسسات الدولة حينها، ما كشف هشاشة الأنظمة الرقمية وضعف إجراءات الحماية الإلكترونية.
وفي عام 2023 كُشف عن تسريب ضخم لبيانات حكومية تضم أكثر من 20 مليون سجل شخصي، نُشرت لاحقا للبيع في "الدارك ويب"، وتضمنت معلومات حساسة عن المواطنين، ما أثار مخاوف واسعة من غياب نظام وطني لحماية البيانات.
وفي عام 2024 تصاعدت الهجمات التجسسية ضد مؤسسات حكومية، نُسبت إلى جهات خارجية استخدمت برمجيات خبيثة لاختراق الأنظمة والبقاء داخلها لفترات طويلة، بهدف سرقة المعلومات واستغلالها لأغراض سياسية.
وفي مطلع عام 2025 أُعلن عن اختراقات استهدفت وزارتي المالية والعمل ومجلس الوزراء، وتسريب كميات كبيرة من البيانات، كما أوقف جهاز الأمن الوطني متهمًا بسرقة وبيع 1500 غيغابايت من ملفات شركات خاصة، في مؤشر واضح على تصاعد وتيرة الجرائم الإلكترونية في البلاد.
قدرات خارقة لدى القراصنة
يقول الأكاديمي المختص في تكنولوجيا المعلومات حيدر ناصر، إن "حماية بيانات المواطنين أصبحت اليوم من أبرز التحديات التي تواجه المؤسسات العراقية، فمعظم الاختراقات لا تحدث بسبب قدرات خارقة لدى القراصنة، بل نتيجة ضعف الأنظمة المستخدمة وغياب إجراءات التحديث الدورية".
ويضيف أن "الاعتماد على برامج قديمة وعدم وجود تشفير فعّال لبيانات المستخدمين يجعل من السهل استهدافها وسرقتها، خصوصا في ظل ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية المسؤولة عن إدارة الملف الرقمي".
ويشير ناصر لـ "طريق الشعب"، إلى أن "العراق يُعد متأخرا نسبيًا في مجال الأمن السيبراني مقارنة بدول المنطقة، بسبب غياب استراتيجية وطنية موحدة، وتعدد الجهات التي تتعامل مع هذا الملف دون وجود مركز وطني للرصد والاستجابة السريعة"، موضحًا أن "الكثير من المؤسسات لا تمتلك كوادر متخصصة، وتعتمد على حلول مؤقتة تقدمها جهات خارجية أو منح دولية، ما يزيد من هشاشتها أمام الهجمات الإلكترونية".
ويؤكد أن "لاختراقات لا تستهدف المؤسسات الحكومية فحسب، بل تمتد إلى الشركات الخاصة والمصارف والمنصات التي تحتوي على بيانات حساسة للمواطنين، وغالباً ما يكون الهدف منها تجاريا أو سياسيا".
ويختتم ناصر قائلاً: ان "الأمن السيبراني لا يتحقق بشراء البرامج فقط، بل ببناء منظومة حماية شاملة تبدأ من التوعية الرقمية، مرورا بتحديث الأنظمة، وانتهاءً بإرادة سياسية تعتبر حماية بيانات المواطنين أولوية وطنية".
ضعف البنية التحتية التقنية
المختص في الأمن السيبراني مصطفى الموسوي، أكد أن المؤسسات الحكومية في العراق تواجه مجموعة من التحديات الجوهرية في مجال الأمن السيبراني، أبرزها ضعف البنية التحتية التقنية واعتماد الكثير من الدوائر الحكومية على أنظمة قديمة وغير محدثة، ما يجعلها عرضة للاختراقات والهجمات الإلكترونية.
وقال الموسوي لـ"طريق الشعب"، إن "العديد من المؤسسات تعتمد على تجهيزات وبنى تحتية متهالكة وغير متطورة، ولا يتم تحديثها بصورة دورية، الأمر الذي يزيد من هشاشتها أمام الهجمات السيبرانية"، موضحا أن بعض هذه الأنظمة غير مرتبطة بالإنترنت بشكل آمن، وتفتقر إلى التشفير والحماية الحديثة.
وأضاف أن نقص الكوادر المتخصصة في الأمن السيبراني داخل المؤسسات الحكومية يمثل تحديا آخر، حيث يؤدي ذلك إلى ضعف القدرة على مواجهة الهجمات الإلكترونية أو التعامل مع الأزمات التقنية عند حدوثها.
وتابع الموسوي، أن العراق يتعرض بين الحين والآخر إلى هجمات إلكترونية خارجية تستهدف مؤسسات الدولة المختلفة، وغالبًا ما يكون الهدف منها تسريب أو نشر بيانات حساسة، ما يتسبب في إثارة الذعر بين المواطنين، ويمثل تهديدا للأمن الوطني والقومي.
كما نبّه إلى وجود تهديدات داخلية مصدرها بعض الموظفين غير الملتزمين أو الذين يسيئون استخدام صلاحياتهم الوظيفية، سواء بسبب الإهمال أو لعدم الرغبة في التطور التقني، معتبرا ان غياب السياسات الوطنية الموحدة للأمن السيبراني، وغياب استراتيجية متكاملة يؤدي إلى تشتت الجهود وضعف التنسيق بين المؤسسات، ما ينعكس سلبا على فعالية الحماية المعلوماتية.
وأشار إلى مشكلة التخزين غير الآمن للبيانات، موضحا أن بعض الجهات الحكومية تخزن معلوماتها على خوادم غير محمية أو غير مشفرة، وهو ما يزيد من احتمالية تسريب بيانات المواطنين كما حدث سابقًا عندما سُربت معلومات حساسة عبر تطبيق "تلغرام".
وفي حديثه عن التحول الرقمي في مؤسسات الدولة، أوضح الموسوي أن لهذا التحول آثارا إيجابية وسلبية في الوقت ذاته. فمن الإيجابيات "تسريع الإجراءات الحكومية، وتعزيز الشفافية، وتقليل الفساد الإداري، وتحسين دقة البيانات، ودعم اتخاذ القرار". أما أبرز السلبيات، فهي "ارتفاع خطر الاختراقات الإلكترونية واحتمال فقدان الثقة بين المواطن والحكومة في حال تسربت بيانات حساسة أو تعطلت الأنظمة الرقمية".
وفي ختام حديثه، شدد الموسوي على ضرورة إنشاء مركز وطني للأمن السيبراني يتولى متابعة التهديدات بشكل مستمر، إلى جانب تطبيق سياسات تشفير وحماية صارمة لجميع البيانات الحكومية، وتدريب الموظفين الحكوميين على الوعي الأمني السيبراني، مع تحديث الأنظمة بشكل دوري وإجراء اختبارات اختراق منتظمة لضمان جاهزية المؤسسات لأي تهديد محتمل.
ضرورة استراتيجية لمستقبل العراق
من جهته، أكد الدكتور مروان سالم العلي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل والمختص في الشؤون الاستراتيجية، أن التحول الرقمي بات اليوم عاملًا حاسمًا للنجاح والقدرة التنافسية للدول، مشيرًا إلى أن الحكومات في مختلف أنحاء العالم تتبنى التقنيات الرقمية لتعزيز كفاءة وفعالية عملياتها الإدارية والخدمية.
وقال العلي، أن "التحول الرقمي لم يعد خيارًا ترفيًّا، بل أصبح ضرورة حيوية في مواجهة الأزمات"، لافتًا إلى أن جائحة كورونا مثّلت نقطة تحول عالمية في اعتماد الخدمات الإلكترونية، خصوصًا في مجالات التعليم والصحة والعمل والإدارة، مشيرا إلى أن "العراق يبدو متأخرًا نسبيًا في تبني التكنولوجيا مقارنة بدول المنطقة.
وواصل القول أن الرقمنة في العراق تُعد "تحديًا وفرصة في آن واحد"، مبينا أن تبني نموذج نضج الحكومة الرقمية يساعد في قياس مدى دمج هذه التقنيات في الخدمات الحكومية وتحسين الاستجابة لاحتياجات المواطنين، فضلًا عن الحد من البيروقراطية والأعباء الإدارية.
وشدد العلي على أن "نجاح التحول الرقمي في العراق يمكن أن يشكل نقلة نوعية في منظومة الحوكمة، ويُسهم في بناء مؤسسات أكثر كفاءة وشفافية"، داعيًا الحكومة إلى الاستمرار في الاستثمار في البنى الرقمية وتطوير المهارات التقنية لدى العاملين في مؤسساتها.
وختم بالقول إن "عملية التحول الرقمي في العراق معقدة وتتطلب وقتًا وإرادة سياسية ومؤسسية قوية، لكنها تمثل فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة على أسس حديثة قائمة على التكنولوجيا والمعرفة".