تتجه أزمة المياه في العراق نحو مرحلة غير مسبوقة من التدهور، إذ يواجه سد الموصل ـ أكبر السدود في البلاد ـ انخفاضا حادا في منسوب المياه، ما أثّر بشكل مباشر على الزراعة ومصادر الشرب في مناطق واسعة من شمال العراق وغربه. وبينما تتصاعد التحذيرات من خبراء وناشطين بيئيين بشأن خطر الوصول إلى مرحلة الخزين الميت، حملوا السياسات الحكومية وضعف إدارة الموارد المائية مسؤولية تفاقم الأزمة التي تهدد الأمن المائي والغذائي في البلاد.
من يعيد التوازن المائي للسد؟
وعبّر عضو في مؤسسة مثابرون للبيئة، عبد العزيز الطائي من قضاء البعاج، عن قلقه إزاء الأوضاع المائية والزراعية في مناطق سد الموصل، مؤكداً وجود مخاوف كبيرة من انخفاض منسوب السد هذا العام، ما أدى إلى تضرر الزراعة بشكل واسع.
وأوضح الطائي لـ"طريق الشعب"، أن الموسم الزراعي انتهى فعلياً في معظم المناطق المتضررة، ولا أمل بإنقاذه إلا في حال شهدت البلاد موسماً مطرياً غزيراً يعيد التوازن المائي للسد.
وأشار إلى أن الأضرار طالت مناطق واسعة تمتد من سد الموصل إلى ناحية ربيعة وسهل نينوى، لافتاً إلى أن هذه الأزمة قد تمتد آثارها إلى مياه الشرب مستقبلاً، إذا استمر الانخفاض بالمستوى الحالي، مضيفا أن المنطقة "تجاوزت في السابق مشكلة الهجرة بسبب أزمة المياه، لكن اليوم تحولت الهجرة إلى مشكلة جديدة نتيجة تزايد أعداد الأسر التي غادرت قراها بحثاً عن مصادر عيش بديلة بعد تدهور الزراعة".
وختم حديثه بدعوة الجهات الحكومية إلى التدخل العاجل لمعالجة الأزمة، وضمان استمرار الإمدادات المائية وحماية الأمن الغذائي في المناطق المتضررة.
تهديد مائي حاد
يقول الناشط البيئي من الموصل زيد زكريا، إن "سد الموصل يعيش واحدة من أصعب مراحله منذ تأسيسه، إذ تراجع خزينه المائي إلى أقل من مليار متر مكعب من المياه القابلة للاستخدام، بعدما كان يحتفظ قبل سنوات بثلاثة أضعاف هذا الرقم".
ويصف زكريا الوضع الراهن بـ“الحرج جدًا”، مشيرًا إلى أن “العراق يقترب من دخول مرحلة التهديد المائي الحاد، ما لم تُتخذ خطوات عاجلة للحفاظ على ما تبقى من الموارد”.
ويُرجع زكريا أسباب هذا التراجع إلى انخفاض الإطلاقات المائية من دول المنبع، خاصة من تركيا وإيران، إضافة إلى تأثيرات الجفاف المستمرة وسوء إدارة الخزين المحلي، موضحا أن "مشاريع السدود في تركيا، وعلى رأسها سد إليسو الذي دخل الخدمة عام 2018، قلصت واردات العراق من نهر دجلة بنسبة كبيرة، الامر الذي انعكس مباشرة على خزين سد الموصل".
ويضيف زكريا في حديث لـ"طريق الشعب"، أن المناطق التي تعتمد على مياه السد، بدأت بالفعل تشهد تراجعا واسعا في المساحات الزراعية، وارتفاعا في معدلات التصحر، وهجرة السكان من الأرياف إلى المدن بسبب انعدام المياه.
ويقول بأسف: "الناس في القرى القريبة من السد يشعرون اليوم أن دجلة لم يعد كما كان. مياهه تتراجع عاما بعد آخر، ومعها تتراجع الحياة".
ويرى زكريا أن أزمة سد الموصل لم تعد مشكلة هندسية أو موسمية، بل "ملف وطني معقد يتداخل فيه السياسي مع البيئي، والدبلوماسي مع الزراعي. فالعراق بحاجة إلى رؤية استراتيجية لإدارة مياهه، تتضمن تحركا دبلوماسيا حقيقيا مع دول الجوار لضمان الحصص المائية، وإصلاح منظومات الري والبزل التي تهدر ملايين الأمتار المكعبة يوميا".
ويختم حديثه بالقول ان "سد الموصل ليس مجرد منشأة خرسانية، إنه رمز لبقاء العراق المائي، وإذا تُرك لمصيره وسط الجفاف والإهمال، فسنجد أنفسنا أمام واقع بيئي وزراعي لا يمكن إصلاحه بسهولة".
دبلوماسية مائية ضعيفة
من جانبها، أكدت لجنة الزراعة والمياه النيابية، أن خزين أكبر سدود العراق ما زال دون مرحلة الخزين الميت، إلا أنه فقد أكثر من 90 في المائة من كميات مياهه نتيجة التراجع الحاد في واردات نهري دجلة والفرات.
وقال عضو اللجنة النائب ثائر الجبوري، إن أزمة المياه في العراق تمر بمرحلة حرجة تُعدّ الأخطر منذ مئة عام على الأقل، بحسب القراءات الرسمية الصادرة عن وزارة الموارد المائية، لاسيما مع انحسار تدفقات نهري دجلة والفرات بنسبة تصل إلى 85 في المائة مقارنة بالسنوات الماضية.
وأضاف الجبوري أن "معدلات الخزين في جميع السدود العراقية انخفضت إلى مستويات حرجة للغاية، إلا أن خزين بحيرة سد الموصل لم يصل بعد إلى مرحلة الخزين الميت”، مبيناً أن “كمية المياه المتوفرة فيه تتجاوز المليار متر مكعب، في حين أن طاقته القصوى تتراوح بين 9 إلى 11 مليار متر مكعب، ما يعني أنه فقد أكثر من 90 في المائة من خزينه".
واختتم تصريحه بالقول إن "سد الموصل يعد خزيناً استراتيجياً مهماً لدعم نهر دجلة المار بعدة محافظات، ولتأمين مياه الشرب والسقي ولو في حدودها الدنيا"، مشددا على "ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على ما تبقى من المياه وتفعيل الدبلوماسية المائية لضمان حقوق العراق في حصصه المائية".
الوزارة: الخزين المائي يدار بخطط دقيقة
من جانبه، أكد المتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال أن الخزين المائي الحالي في العراق يبلغ نحو 6% من الطاقة الخزنية، موضحًا أن هذا المستوى يُدار وفق خطط دقيقة توازن بين الحاجة للاستهلاك وضمان الاستدامة حتى نهاية الموسم الصيفي المقبل.
وبيّن شمال، أن إدارة الخزين المائي تتم بطريقتين: الأولى خلال فترة الإملاء التي تبدأ مع الموسم الشتوي لتعزيز الخزين حتى نهاية ذوبان الثلوج في نهاية شهر أيار، والثانية بعد الإملاء، حيث تُدار الإطلاقات المائية بشكل اقتصادي لتقليل الهدر وإطالة عمر الخزين.وأضاف أن الوزارة هذا العام اعتمدت سياسة رشيدة في إدارة الخزين من خلال تجنّب الإطلاقات غير الضرورية، الأمر الذي ساهم في الحفاظ على الكميات المتوفرة رغم الظروف المناخية الصعبة.
وفيما يخص مياه الشرب، أوضح شمال أن العراق يحتاج سنويًا إلى نحو 5 مليارات متر مكعب لتأمين مياه الشرب، وهي مؤمنة بالكامل حتى بداية الموسم المقبل، مؤكدًا أن جميع مناطق البلاد مشمولة بالتجهيز، باستثناء بعض القرى والنواحي النائية التي قد تشهد انقطاعات مؤقتة لأسباب تتعلق بنظام المناوبة أو محدودية المحطات المحلية.
وأشار إلى أن الوزارة بدأت مؤخرًا بتنفيذ برنامج لتأمين الخزانات البديلة بالتنسيق مع وزارة البلديات والأمانة العامة والمحافظات لضمان استمرار وصول المياه إلى جميع المناطق دون انقطاع.