اخر الاخبار

بغداد – تبارك عبد المجيد

عاشت محافظة البصرة خلال الأيام الماضية على وقع أزمة مياه خانقة أشعلت موجة احتجاجات غاضبة في عدد من مناطقها، وسط تفاقم الملوحة وتراجع الإمدادات العذبة من شط العرب؛ حيث استمر الاحتجاج لعدة ايام.

السكان في أحياء الحيانية والتميمية والعشار اغلقوا الطرق وإشعلوا الإطارات تعبيراً عن سخطهم من غياب الحلول الحكومية لأزمة وصفوها بـالمزمنة، بعدما تحولت معاناة الحصول على ماء صالح للشرب إلى كابوس يومي يهدد حياة الآلاف.

نطالب بالماء فترد الحكومة بالغاز المسيل للدموع

يقول عمار البصراوي، احد المحتجين: "اننا لا نخرج من أجل الفوضى، بل لأننا نعيش منذ شهور بلا ماء صالح للشرب. أطفالنا يشربون الماء المالح، وملابسنا نغسلها بماء ملوث، وحياتنا أصبحت معاناة يومية. تعبنا من الوعود التي لا تُسقي ولا تُطعم".

ويضيف البصري لـ"طريق الشعب"، أن "البصرة، التي تغذي العراق بالنفط أصبحت أفقر مدنه بالماء، بعد أن غزت الملوحة والملوثات شط العرب ووصلت إلى كل بيت. المشاريع التي وعدت بها الحكومات المتعاقبة ما زالت حبيسة التصريحات، فيما الواقع يزداد سوءاً يوماً بعد آخر".

ويزيد بالقول "نحن نحتج سلمياً، لا نحمل سوى أصواتنا ولافتاتنا. لكن الرد دائماً يكون بالغاز المسيل للدموع والاعتقالات. هل صار المطالبة بالماء جريمة؟ نحن لا نريد سوى أن نعيش بكرامة، فالماء حق وليس منه".

ويؤكد أن ما يجري في البصرة تجاوز حدود الأزمة الخدمية، ليصبح قضية إنسانية تمسّ كرامة الناس وحقهم في الحياة، نحن لا نطلب المستحيل، نطلب الماء، فقط الماء. وإذا كانت الحكومة جادة فعلاً في إنهاء الأزمة، فعليها أن تبدأ بخطوات عملية في إنشاء محطات تحلية جديدة ومعالجة ملوحة شط العرب، لأن الصبر نفد".

اللسان الملحي يتمدد منذ 7 اعوام

يقول د. جاسم حسين عبدالله من المكتب الاستشاري لنقابة المهندسين الزراعيين/ المقر العام، انه "منذ عقود طويلة، ومحافظة البصرة تعيش أزمة خانقة في المياه، أزمة لم تعد موسمية ولا طارئة، بل أصبحت واقع متكررا. فشح الإمدادات المائية وصعود اللسان الملحي من الخليج العربي باتا يهددان حياة الناس وبيئتهم ومعيشتهم".

ويضيف جاسم في تعليق لـ "طريق الشعب"، أن اللسان الملحي في عام 2018 وصل إلى مشارف قضاء الدير، على بعد نحو 150 كيلومتر من الخليج العربي. أما في الأزمة الحالية لعام 2025، فقد تجاوز اللسان الملحي تلك المسافة ليصل إلى قرابة 200 كيلومتر، متخطياً الدير بنحو 40 إلى 50 كيلومترًا. هذا التمدد يعني ببساطة أن مياه البحر أصبحت تقتحم شط العرب بعمق لم يسبق له مثيل، لتقلب الموازين البيئية والزراعية والاقتصادية في آن واحد.

لكن الملوحة ليست وحدها المشكلة؛ فشط العرب، كما يوضح د. جاسم، بات مصبّاً لمياه الصرف الصحي والبزل الزراعي ومخلّفات المستشفيات ومحطات الكهرباء: "كل هذه الملوثات تتدفق عبر الأنهر الفرعية أو عبر أنابيب مباشرة نحو مجرى النهر، لتخلّف مزيجًا سامًّا من الملوثات العضوية والكيميائية التي تهدد صحة الإنسان والحيوان والنبات على حد سواء".

أما القطاع الزراعي، فيصفه الدكتور جاسم بأنه "منكوب". فمساحات واسعة من الأراضي الزراعية في جنوب البصرة، لاسيما في مناطق الفاو والسيبة وأبي الخصيب وشط العرب والقرنة والهارثة والدير والنشوة، تأثرت بشدة.

الخضروات الورقية ماتت، والنخيل والفواكه تراجعت إنتاجيتها، ما ألقى بظلال قاتمة على معيشة آلاف العائلات التي تعتمد على الزراعة كمصدر رزق رئيسي.

ويضيف جاسم، أن المعاناة الأكبر اليوم هي في مياه الشرب. فالبصرة لم تعد تعتمد على المياه النهرية مباشرة، بل على المياه المصفّاة عبر محطات التحلية الصغيرة (R.O) أو تلك التي تُنقل بصهاريج إلى البيوت. ومع تفاقم الأزمة، ارتفع سعر طن المياه من عشرة آلاف إلى عشرين ألف دينار في كثير من المناطق.

البدعة.. شريان الحياة الوحيد

قناة البدعة، القادمة من نهر الغراف في الناصرية، كانت تمثل الأمل الأخير للبصريين. فهي تنقل نحو خمسة أمتار مكعّبة في الثانية، وتغطي جزءا من حاجة السكان بنظام المراشنة، حيث تُوزع المياه بالتناوب على المناطق. لكن حتى هذا النظام أصبح غير فعال، فالمياه تصل إلى بعض البيوت كل ثلاثة أو أربعة أيام، وغالبا ما تكون مالحة، ما يجعل استخدامها للشرب أو الغسل شبه مستحيل.

يقول جاسم بأسى ان "الناس تنتقد الوضع لأنها تعلم أن الأزمة ليست جديدة. منذ عام 2009، عندما وصل اللسان الملحي لأول مرة إلى مشارف العشار، ونحن نحذر. ستة عشر عامًا مرت، ولم تُبنَ محطة تحلية كبيرة تؤمّن مياهًا صالحة للشرب، رغم كل الكوارث التي مرت بها البصرة".

مطالبات بحلول عاجلة

من جانبه، دعا مهدي التميمي من مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، إلى ضرورة تعزيز الحوار والتفاهم بين السلطات الحكومية والمواطنين، مؤكداً على أن العلاقة بين الطرفين يجب أن تُبنى على أساس كونهم “جسداً واحداً” يسعى لحياة كريمة يسودها احترام الحقوق وسيادة القانون.

وقال التميمي لـ"طريق الشعب"، أن المكتب، وبعد رصد ومتابعة وتقييم التظاهرات الأخيرة التي شهدتها المدينة، لاحظ أن مطالب المحتجين مشروعة وبسيطة، إذ تتركز حول الحصول على ماء صالح للشرب غير ملوث ولا مالح، وتوفير فرص عمل كريمة، وتحسين الخدمات العامة، والكشف عن الفساد في المال العام الذي هو ملك لجميع المواطنين.

وأضاف أن المكتب يطالب محافظ البصرة ورئيس مجلس المحافظة بفتح حوار ميداني مباشر مع المتظاهرين، والعمل على إيجاد حلول عاجلة والاستجابة السريعة لمطالبهم، فضلاً عن إجراء تحقيق شفاف في الأحداث المؤسفة التي وقعت في منطقة الحيانية وأمام شركة نفط البصرة.

كما شدد التميمي على ضرورة أن تضطلع القوات الأمنية بدور أكبر في حماية المتظاهرين وضمان سلامتهم، وفي الوقت نفسه حثّ المتظاهرين على التمسك بالسلمية وتعزيز التعاون مع رجال الأمن الذين يؤدون واجبهم في حماية الأرواح والممتلكات العامة والخاصة.