لا تزال صورة الماء الأزرق المترامي الأطراف والضوء المتغلغل في أعماقه، عالقة في ذهنه مهما ابتعد عن بيئة هويته الأصيلة. هذا ما يؤكده الناشط البيئي الشاب مصطفى هاشم وهو يصف علاقته بهور الحويزة، الذي اضطر وعائلته إلى تركه، قسرا، بعد جفافه.
وُلد مصطفى عام 2002 في قرية تقع على حدود هور الحويزة ضمن محافظة ميسان، لا في عمق الهور نفسه. إذ لم يُسمح للناس بالعيش داخل هذا المسطح المائي بعد حملات تهجير قسري شهدها إبان الثمانينيات والتسعينيات.
ويُعد هور الحويزة أحد أكبر الأهوار العراقية. ويقع في محافظتي ميسان والبصرة على الحدود مع إيران، ويتميز بتنوع بيئي وثقافي غني. وتبلغ مساحة هذا الهور حوالي 1377 كيلومتراً مربعاً، أما عرضه فيصل إلى 30 كيلومتراً، وطوله 80 كيلومتراً. بينما تبلغ نسبة الجزء العراقي من مساحته أكثر من 80 في المائة، والجزء الإيراني نحو 20 في المائة.
وبسبب آثار التغيّرات المناخية المتسارعة، وسوء إدارة ملف الموارد المائية، تعرّضت الأهوار العراقية إلى جفاف شديد بعد أن كانت موطنا غنيا بالمياه والحياة البرية والزراعية والتنوّع البيئي. فيما يُشكك مراقبون في كون الواقع المناخي هو السبب الوحيد لجفاف تلك المساحات المائية، معتقدين أن هناك أيضاً "تجفيفا متعمدا"!
ولا يبدو ان تلك الأزمات المائية والبيئية مجرد تحدٍ عصري، بل امتداد لتاريخ طويل من الإهمال والتهميش. حيث يجد السكان المحليين أنفسهم مضطرين للهجرة أو التأقلم مع ظروف قاسية لم تعرفها المنطقة من قبل.
وهنا تبرز قصة مصطفى، الذي أصبح صوتا حيا ينقل معاناة أهل الأهوار وأثر الجفاف والتغير المناخي على حياتهم اليومية، ساردا قصة تحوّل المساحات المائية التي شكلت هويتهم إلى صحراء جافة موحشة.
ومنذ طفولته كان يسمع قصص الحياة القديمة في قلب الهور، وكيف كان الناس يعيشون بحرية وسط الماء والقصب والجاموس، وكيف كانت الحياة بسيطة ومتصلة بالطبيعة.
يقول مصطفى في حديث صحفي انه كان يجلس عادة وسط "البلم" ويمد رأسه لينظر إلى قاع الهور. حيث كان يبيت مع والده وسط "بركة أم النعاج"، ذلك المسطح المائي الذي تبلغ مساحته 100 كيلومتر مربع وتحيط به غابات قصب كثيفة يصعب اختراقها.
ويذكر أنه "في كل مرة كنّا نربط البلم وسط الهور وننام.. مشهد السماء المليئة بالنجوم، ونسيم الهواء، وصوت الطيور.. أتذكر كل ذلك جيدا".
وقبل الجفاف، كان عمل مصطفى ووالده، هو صيد الأسماك. حيث يبدآن عملهما منذ الفجر، ليصطادا قوت العائلة، لكن تلك الحياة تبددت مع بداية الجفاف، ليضطرا في النهاية إلى العمل في منشأة نفطية قريبة كانت قيد البناء، مقابل أجور زهيدة.
ومع اكتمال بناء المنشأة، تم تسريح مصطفى ووالده ومن معهم، فانتقلا للعمل في محطة كهرباء.
ذريعة التغيّرات المناخية!
يتحدث مصطفى عن الاعتقالات والتنكيل وحتى الموت الذي واجهه أبناء منطقته خلال صراعهم مع السلطات الدكتاتورية من أجل البقاء.
ويقول: "ترعرعت في دولتي كمواطن من الدرجة الثانية، كما ترعرع والدي وعائلتي وكل من أعرف". فيما يرى أن "التغيرات المناخية أصبحت ذريعةً بيد الحكومات الجديدة، لتبرير فشلها في إدارة ملف المياه".
ويتابع قائلا: "نحن بلا نصيب من مياه دجلة والفرات، لا من تركيا التي تحبس الماء خلف سدودها، ولا من إيران التي تحوله إلى مناطقها المركزية، ولا من حكومتنا التي تتركنا للجفاف وتمنح أراضينا للشركات النفطية".
ويلفت مصطفى إلى انه "بعد 2022 تغيّر كل شيء.. الهور بات محاطا بساتر أمني، ولا يمكننا دخوله إلا بتصريح خاص يُجدَّد كل ستة شهور أو سنة. نحن السكان الأصليين مطالبون بتسليم هوياتنا الشخصية عند الدخول، ونتسلّم باجًا مكتوبًا عليه (صياد أهواري)، وعلينا الخروج قبل الرابعة عصرًا"، مشيرا إلى ان "النساء ممنوعات من دخول الهور تمامًا بحجة أنه لا يمكن تفتيشهن، فيما يُفتَّش الرجال بطريقة قاسية. حتى إن جلبتَ حشائش من الهور فعليك إنزالها بالكامل عند الحاجز الأمني لتفتيشها، وهي عملية مرهقة. هذه الإجراءات تزداد تعقيدا عاما بعد آخر، كأننا نعيش تحت سلطة لا ترانا مواطنين، بل غرباء على أرضنا"!
تجفيف متعمّد؟!
يرى ناشطون بيئيون أن هور الحويزة تعّرض منذ نهاية 2021 إلى تجفيف متعمد، مبينين أن إجراءات حكومية ساهمت في حرمان الهور من الإطلاقات المائية، رغم التصريحات الرسمية التي تتحدث عن "إنعاش الأهوار واستدامتها".
وعن ذلك يقول الناشط البيئي مرتضى عبد الرزاق، في حديث صحفي إبان نيسان الماضي، ان "هذا التجفيف استمر حتى عام 2023، عندما أعلنت الحكومة ضمن جولة التراخيص النفطية الخامسة، عن تحويل هور الحويزة إلى حقل نفطي يحمل الاسم ذاته. فاستحوذت عليه إحدى الشركات الصينية".
ومنذ ذلك الحين – الحديث لعبد الرزاق – تواصل وزارة الموارد المائية "تزييف الحقائق بشأن واقع المياه في الأهوار".
ويلفت إلى ان "شركة الاستكشافات النفطية بدأت أعمالها في الهور نهاية عام 2024 لصالح شركة صينية، وأن معداتها تم إنزالها داخل المنطقة التراثية المصنفة ضمن لائحة التراث العالمي، في مخالفة صريحة للقرارات الدولية والمحلية التي تمنع أي أعمال استكشافية أو إنشائية داخل هذه المناطق دون موافقات رسمية، والتي لم تُستحصل حتى الآن".
سوء الادارة
وفي السياق، يتحدث رئيس "مؤسسة جلجاموس" المعنية بالآثار والأهوار، علي المسافري، عن سوء إدارة الموارد المائية كسبب رئيس لجفاف هور الحويزة وغيره من الأهوار، فيما يشير إلى سبب آخر متمثل في إجراءات تتخذها وزارة الموارد المائية ووزارات أخرى، لتحويل هذا الهور إلى حقل نفطي.
ويلفت في حديث صحفي سابق إلى ان "بوادر التجفيف الأساسية التي شهدها الهور بدأت مع بناء السدة الترابية الحدودية القاطعة، التي تبعد 600 إلى 700 متر عن الحدود الإيرانية، بعرض قاعدة 30 متراً، وارتفاع 12 متراً، وعرض شارع نهائي 6 أمتار. وتمتد السدة 120 كيلو متراً من البصرة إلى الشيب"، معتبرا أن "هذه السدة عملية تجفيف فعلية لهور الحويزة".
وحددت حكومة ميسان أوقات دخول الصياديين إلى الهور بساعات معيّنة. ووفقا لما أفادت به لجنة الأهوار في مجلس المحافظة، فإن هذا القرار يأتي لمنع عمليات الصيد الجائر باستخدام التيار الكهربائي.
وبالعودة إلى مصطفى، فإنه يرى هور الحويزة "ليس مجرد مكان، بل هو روح وهوية، لذلك نسمي ما يحدث اليوم احتلالًا وهيمنة على أراضينا، لأنهم لا يمنعوننا من الدخول فقط، بل يمنعون عنا الذاكرة والحياة التي شكّلتنا".