يتنقل آلاف الشبّان العراقيين بين محافظة وأخرى، بحثاً عن عمل مؤقت أو موسمي يوفّر قوتهم اليومي، وسط تصاعد معدلات البطالة في البلاد وصعوبة الحصول على عمل مستدام.
ولم تعد هذه المشاهد مجرد حالات فردية، إنما صارت بمثابة ظاهرة تعكس عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلد، وتنم عن هشاشة سياسة الإسكان وانعدام فرص التنمية المتوازنة بين المحافظات.
وعلى امتداد العام، يتنقل هؤلاء الشبّان الذين تتراوح أعمارهم غالباً بين 18 و35 سنة، بين محافظات البصرة وذي قار والنجف وبغداد، وصولا إلى الأنبار وصلاح الدين وديالى، وذلك حسب مواسم توفر فرص العمل. ففي موسم حصاد القمح والذرة والنخيل والزيتون، يقصدون المحافظات المعروفة بهذه الزراعات، وفي فترات لاحقة يتوجهون نحو المدن الكبرى للعمل في ورش البناء، أو في تفريغ الحمولات أو التنظيفات أو هدم المباني، فضلا عن الحمالة في الأسواق وخدمات التوصيل والوظائف الرقمية في مشاريع مؤقتة.
ويفترش الكثيرون من هؤلاء الساحات ومحطات الاستراحة في انتظار فرص عمل. وغالبا ما يسكنون جماعات أو يقيمون مؤقتا في منازل أصحاب العمل أنفسهم، أو في غرف بائسة مستأجرة باليومية، أو داخل أماكن العمل، لأنهم يعجزون عن تأمين تكاليف إيجار شقق مناسبة.
معظم هؤلاء فقراء ينحدرون من مناطق ريفية أو مدن صغيرة. وكثيرون منهم يعملون من دون أي عقود رسمية أو ضمانات وتأمينات اجتماعية.
شقاء في سبيل الخبز!
في حديث صحفي، يقول علي (23 سنة)، وهو من محافظة الديوانية: "منذ ثلاثة أعوام وأنا أتنقل بين المحافظات بحقيبتي الصغيرة، بحثاً عن عمل أعيش منه بكرامة. عملتُ في مجال البناء في البصرة، وعامل مقهى في النجف. وسبق أن عملت بائعاً متجولاً في بغداد"، مستدركا "لكنني لم أجد الاستقرار، كل شيء مؤقت".
ويشير إلى أن معاناته تنسحب على الكثير من الشبّان الذين يتجولون بين المحافظات، بحثاً عن فرصة عمل قد لا تتجاوز مدتها شهراً واحداً، ومن ثم يضطرون إلى الانتقال نحو محافظة أخرى علّهم يحظون بمصدر معيشة آخر.
أما حسين (25 سنة)، وهو من محافظة النجف، فيقول أنه قصد بغداد باعتبار أن فرص العمل فيها أكثر، حتى ولو كانت مؤقتة.
ويضيف قوله في حديث صحفي أنه "تمكنت من إيجاد فرصة عمل في أحد المطاعم براتب قليل أحوّله إلى أهلي. لكن الحياة المتنقلة صعبة. إذ لا راحة بال ولا استقرار، فضلاً عن ابتعادي عن أهلي. كل ما أتمناه اليوم هو أن أعثر على فرصة عمل ثابتة في محافظتي، كي أستقر وأكون بالقرب من والدتي المريضة".
في السياق، يقول الشاب حيدر، وهو من ناحية الحفرية شمالي واسط، انه يضطر يوميا في الساعة الرابعة فجرا للتوجه إلى بغداد كي يزاول عمله حمّالا في سوق الشورجة، نتيجة غياب فرص العمل في منطقته.
ويضيف في حديث لـ"طريق الشعب"، أن العمل متعب للغاية. إذ يتطلب منه قطع مسافة تقارب 75 كيلومترا يوميا، مقابل مردود مالي بسيط بالكاد يغطي احتياجات عائلته اليومية، مشيرا إلى أن منطقتهم تسكنها عائلات متعففة ومحدودة الدخل، ولا توجد فيها حركة تجارية نشطة مثل بغداد، ما يزيد من صعوبة تأمين فرص عمل مناسبة.
ويشير حيدر إلى انه "بالرغم من انني خريج معهد فني، لكنني لم أتمكن من الحصول على وظيفة في تخصصي، وهذا ما يضطرني للعمل في العاصمة وسط ظروف صعبة"، مبينا ان هذا الوضع يعكس حاجة المنطقة إلى فرص عمل حقيقية ودعم تنموي لتخفيف معاناة الشباب وإبقائهم في مناطقهم دون الحاجة إلى الهجرة اليومية أو الدائمة بحثًا عن لقمة العيش.
أزمة مُعقدة
الخبير الاقتصادي سالم الدليمي، يذكر من جانبه أنّ "الشاب العراقي يواجه اليوم أزمة معقدة تتجاوز مفهوم البطالة التقليدي. إذ إن قلة فرص العمل المستدامة وغياب السياسات التشغيلية الموجهة، جعلتا من التوظيف المؤقت أو العقود القصيرة ظاهرة شبه ممنهجة".
ويضيف في حديث صحفي قوله أن "مركزية الفرص الاقتصادية في المدن الكبرى، مثل بغداد والبصرة، جعلت منها محطات جذب أساسية للباحثين عن عمل، لكنها لا تقدّم بيئة معيشية متوازنة، بسبب ارتفاع كلفة السكن ونقص الوحدات السكنية الميسّرة"، متابعا القول: "لذلك يفضّل كثير من الشباب التنقل بين المحافظات، أو العيش في أماكن مؤقتة، بدلاً من الالتزام بإيجارات مرتفعة".
ويوضح الدليمي أن "ضعف استثمارات التشغيل في المحافظات، إلى جانب الأزمات المتكررة في الرواتب الحكومية، وتأثير تغير المناخ على سُبل العيش في المناطق الزراعية، كلها عوامل تُجبر الشباب على التنقل المستمر بحثاً عن فرص محدودة الوقت توفّر لقمة العيش".
من جهتها، ترى الباحثة الاجتماعية ليلى عمران أنّ "الكثيرين من هؤلاء الشبّان يعانون صعوبة الاستقرار النفسي والصحي، بسبب عدم توفر سكن مستقر خاص بهم، واضطرارهم إلى العيش ضمن بيئات غير صالحة، ما يعيق قدرتهم على الاندماج المجتمعي عند انتقالهم إلى مدن أخرى، ويفاقم لديهم شعور الاغتراب الذي يراودهم دائماً، وهم داخل وطنهم. كلها عوامل تسبّب ضغوطا نفسية وحالات من العزلة والاكتئاب".
إشكالية قانونية واجتماعية
إلى ذلك، يفيد الخبير القانوني وسام عبد الكريم، بأن "عمل الشباب دون عقود رسمية يمثل إشكالية قانونية واجتماعية خطيرة. إذ يبقى آلاف العاملين في حالة من اللااستقرار المهني والمعيشي، ويتعرضون للاستغلال من قبل بعض أصحاب العمل"، معتبرا أن "غياب العقود المكتوبة يحرم الشباب من الضمانات القانونية الأساسية مثل التأمين الصحي، وتعويضات الإصابة، والإجازات، وحق المطالبة بالأجر".
ويشير في حديث صحفي أن "الكثيرين من هؤلاء ينتقلون من عمل إلى آخر من دون أي حماية أو سجل مهني ثابت". ويرى أن "الحلّ يكمن في تفعيل قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015 وتوسيعه ليشمل العاملين المؤقتين والعاملين بنظام الأجر اليومي، إلى جانب إطلاق قاعدة بيانات وطنية تُسجَّل فيها جميع فئات العمال، لضمان حقوقهم ومتابعة التزامات أصحاب العمل".
هذا وتؤكد وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أن بغداد تشهد وفرةً أكبر في فرص العمل، مقارنةً ببقية المحافظات.
ويقول مدير عام دائرة العمل والتدريب المهني في الوزارة، أسامة مجيد الخفاجي: "تتوفر فرص عمل أكثر في العاصمة، نظراً لتركز النشاطات الاقتصادية والتجارية والخدمية فيها، إلى جانب وجود مؤسسات للقطاعين العام والخاص تستقطب أعداداً كبيرة من الباحثين عن العمل".
ويشير في حديث صحفي إلى ان "هذا التفاوت بين المحافظات لا يعني غياب فرص العمل في بقية المناطق، بل يعكس الحاجة إلى توزيع أكثر عدالة للفرص الاستثمارية والمشاريع الإنتاجية، بما يضمن تمكين الشباب في كل محافظات"، مبيّناً أن الوزارة تسعى إلى وضع خطط عملية لتقليل معدلات البطالة، من خلال برامج التدريب المهني ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، بالشراكة مع القطاع الخاص والهيئات المحلية".