اخر الاخبار

في ظل غياب أنظمة حماية فعالة وتأمين حقيقي على الحياة، تتزايد حوادث العمل في العراق وتقع ضحيتها سنويا مئات العمال. إذ تتحوّل مواقع العمل في كثير من الأحيان إلى مساحات خطيرة تتكرر فيها الإصابات المميتة بسبب ضعف إجراءات السلامة وانعدام الرقابة وتجاهل أصحاب العمل معايير الوقاية.

وبعد كل حادث، غالبا ما يجد الضحايا وذووهم أنفسهم أمام طريق مسدود قانونياً، ليختار البعض اللجوء إلى العشيرة بوصفها الجهة الوحيدة القادرة على فرض التعويض أو تحقيق نوع من العدالة، ولو خارج الإطار الرسمي.

وتتحدث وكالات أنباء عن تقارير غير رسمية تفيد بتسجيل مئات الإصابات في مواقع العمل خلال العام الجاري. لكن الأرقام الحقيقية تبقى مجهولة في ظل غياب الإحصائيات الدقيقة وتكتم الكثير من المؤسسات الأهلية عن الإبلاغ عن حوادثها. 

تحديات أمام رصد الأعداد الفعلية

تنقل وكالة أنباء "العربي الجديد" عن مسؤول في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، قوله أن "هناك تحدّيات كبيرة أمام رصد الأعداد الفعلية لضحايا حوادث العمل في البلاد".

ويلفت المسؤول الذي حجبت وكالة الأنباء اسمه، إلى أن "بعض أصحاب العمل يتعمّدون إخفاء الحوادث لتجنب المساءلة أو دفع التعويض"، مشيرا إلى أن "الإصابات الناجمة عن السقوط وانزلاق الأجسام الثقيلة واستخدام المعدات الميكانيكية غير المؤمنة، تشكل النسبة الكبرى من الحوادث في المصانع وورش البناء والمخازن".

هذا الواقع يكشف ضعفاً مؤسساتياً خطيراً في تطبيق قوانين العمل والسلامة المهنية. ورغم أن التشريعات العراقية تنص بوضوح على وجوب حماية العاملين وتأمينهم ضد الحوادث، إلا أن التنفيذ غالباً غير مطبق بسبب ضعف الرقابة الميدانية وغياب العقوبات الرادعة. يضاف إلى ذلك أن قانون الضمان الاجتماعي الذي يفترض أن يوفر شبكة حماية للعمّال، ما زال تطبيقه محدوداً. إذ يمتنع كثيرون من أرباب العمل عن تسجيل موظفيهم لتفادي الالتزامات المالية المترتبة عليهم – وفق ما يذكره مراقبون.

العشيرة بدلا من الدولة!

في ظل فراغ إداري وقانوني، تلعب العشيرة دوراً محورياً عند وقوع الحوادث وما ينتج عنها من نزاعات. فحين يصاب عامل بعجز دائم أو يفقد حياته في حادث أثناء أداء مهامه، يجد ذووه أنفسهم أمام نظام رسمي بطيء ومعقد، لا يضمن تعويضاً عادلاً في وقت قصير. وهنا تتدخل العشيرة باعتبارها السلطة الاجتماعية القادرة على فرض الحلول، سواء عبر التفاوض المباشر مع صاحب العمل أم من خلال مجلس عشائري يحدد مقدار الدية وفق الأعراف المحلية.

غير أن هذا الحل القبلي، رغم أنه يقدم تعويضاً فورياً، إلا أنه يظل مؤشراً على ضعف الدولة في إنفاذ القانون.

يقول الناشط سامي العباسي في حديث صحفي، أن "العدالة العشائرية لا تقوم على أسس تشريعية ثابتة، وغالباً ما تكون خاضعة لتقدير الشيوخ والمكانة الاجتماعية للأطراف. في بعض الحالات، قد يجبر أهل الضحية على قبول تسوية مالية متواضعة مقابل التنازل عن حقوقهم القانونية، أو تجنب نزاع عشائري طويل. هذا الواقع يضع العمّال بين غياب الضمان وسلطة الأعراف التي تحل محل القانون".

تجاوز المخالفات

من جانبه، يقول أحمد فيزي، وهو عامل تابع لشركة مقاولات إنشائية في بغداد، أن "معايير السلامة المهنية لا تزال غائبة في عدد كبير من مواقع العمل، في ظل ضعف الرقابة وتشتت الجهود بين الجهات المعنية". ويشير في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى ان "بعض أرباب العمل يستغلون علاقاتهم الشخصية مع جهات رقابية حكومية لتجاوز المخالفات، ما يُفقد عملية التفتيش مصداقيتها وبالتالي يُعرّض العمال والخدمات الأساسية لمخاطر متزايدة". ويوضح أن "المشكلة لا تتوقف عند أرباب العمل وحسب، بل تشمل أيضا عدم التزام كثيرين من العمال بإجراءات السلامة حتى عندما يوفّرها رب العمل، الأمر الذي يضاعف احتمالات وقوع إصابات كان يمكن تجنبها بسهولة".

ويدعو فيزي إلى تنظيم ورش تثقيفية دورية تستهدف العمال وأصحاب العمل على حدّ سواء، من أجل رفع الوعي بمتطلبات السلامة المهنية وترسيخ ثقافة الوقاية في مواقع العمل، مؤكّدًا أن "الأمن المهني ليس إجراء روتينيا، إنما ضرورة لحماية حياة العامل". 

حوادث الورش الشخصية

إلى ذلك، يتحدث فنيون وصناعيون، عن تزايد حوادث العمل داخل الورش الشخصية والمشاغل الصغيرة، وليس فقط في المصانع الكبيرة والمشاريع الإنشائية.

وفي هذا السياق يقول نايف سعيد الليثي، الذي يعمل حدادا في واسط، أن "من بين الأسباب الرئيسة لوقوع حوادث العمل، هو غياب الثقافة الذاتية لدى العاملين تجاه معايير السلامة، والاستهانة المفرطة بالمخاطر التي تحيط بهم أثناء استخدام الأدوات والمعدات الجارحة". ويوضح لـ"طريق الشعب"، أن "الكثيرين من أصحاب الورش الصناعية الصغيرة، وعمّالهم، يعتمدون على خبراتهم الشخصية فقط، دون أي تدريب أو إرشاد مهني، ما يجعلهم عرضة للإصابات البالغة".

ويشير الليثي إلى ان "الالتزام الذاتي بإجراءات الوقاية يجب أن يكون أولوية، خصوصا في الأماكن التي لا تخضع لرقابة حكومية مباشرة"، داعيًا إلى إطلاق حملات توعية مخصصة لهذه الفئة، وتشجيع أصحاب الورش على توفير الإرشادات الأساسية للسلامة وتطبيقها بصرامة.

ويختم حديثه بالقول أن "السلامة المهنية ليست ترفا، إنما مسؤولية فردية قبل أن تكون مؤسسية، وتجاهلها يعني فتح الباب أمام خسائر بشرية ومادية يمكن تفاديها بوعي بسيط وإجراءات فعّالة".

ولا تتوفر قاعدة بيانات رسمية موحدة حول حوادث العمل في العراق، ما يشكل عقبة إضافية أمام وضع السياسات الوقائية. فالحوادث في الورش الصغيرة لا توثق رسمياً، وغالباً ما تسوى داخلياً. أما الحوادث في المؤسسات الحكومية، فغالباً ما تحاط بالسرية لحماية المسؤولين من المساءلة، الأمر الذي يعقد حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها العمّال، خصوصاً في ظل ظروف اقتصادية تدفعهم للعمل في بيئات غير آمنة مقابل أجور متدنية.