تعاني بحيرة آمرلي في محافظة صلاح الدين جفافاً شديداً حوّلها إلى مساحة جرداء قاحلة بعد أن كانت مصدرا مائيا مهما لريّ المزارع وتربية المواشي وصيد الأسماك، وملاذاً طبيعياً للباحثين عن الراحة والاستجمام، لتنعكس بذلك الآثار الكارثية للجفاف الحادّ الذي تشهده البلاد، والذي أتى على عديد من المسطحات المائية.
وتُعدّ هذه البحيرة، التي تتغذى بالمياه من سد العظيم، أحد أبرز المواقع السياحية الطبيعية في المنطقة، نظراً لما تتمتع به من مساحات خضراء ونسيم عليل، ما جعلها مقصداً لسكان المدن والقرى القريبة خلال أيام العُطل والمناسبات. حيث كانت بمنزلة مكان ترفيهي مجاني للأفراد والعائلات، على حين انها شريان حياة لأهالي القرى والمناطق القريبة. لكن مشهد البحيرة تبدّل كليّاً هذا العام؛ المياه جفت، والأسماك نفقت، والحقول ذبُلت، فيما بقيت الذكريات وحدها تسبح في وجدان الناس!
يأتي ذلك بالتزامن مع تحذيرات أطلقها مدير ناحية العظيم نبيل العبيدي قبل أيام، من خطر وشيك يهدد القرى والمناطق المحلية نتيجة نفاد المياه في سد العظيم، مؤكدا أن ما تبقى فيه لا يكفي أكثر من 15 إلى20 يوما ولا يصلح للاستخدام، وسط تأخر إنجاز مشروع ماء العظيم المركزي منذ عشر سنوات.
جفّت بالكامل!
في حديث صحفي يقول قائم مقام قضاء آمرلي ميثم نوري، أنّ البحيرة، وهي الخزين المائي الوحيد في المنطقة، جفّت بالكامل للمرة الأولى في تاريخها، مبينا أنّ أزمة المياه المتفاقمة وقلّة الأمطار سبَّبا انحسار المياه تماماً.
ويلفت إلى ان هذه الأزمة "وضعت عشرات القرى في مواجهة عطش حقيقي. حيث اضطر الأهالي إلى الاعتماد على الآبار الارتوازية لتأمين مياه الشرب والاستخدامات المنزلية اليومية".
ويضيف نوري قوله أن "الجفاف ألغى كل خطط الزراعة الشتوية بسبب انعدام مصادر السقي، ما يهدد بانهيار الموسم الزراعي بشكل كامل"، محذراً من "كارثة بيئية وإنسانية وشيكة في حال عدم هطول الأمطار أو وصول سيول تغذي مصادر المياه".
وينوّه إلى ان "أمرلي، التي يعتمد معظم سكانها على الزراعة وتربية المواشي، تواجه تحدياً وجودياً يهدد حياة السكان ويدفع نحو نزوح قسري إذا لم يتم التدخل العاجل من قبل الحكومة الاتحادية لتأمين بدائل مائية عاجلة".
المكان الأحب!
يتحدث مواطنون عن ذكرياتهم مع بحيرة آمرلي، وما يحملونه من مشاعر تجاه هذا المَعلم السياحي.
ففي تكريت تصف ندى العواد (45 عاماً)، هذه البحيرة، بأنّها "المكان الأحبّ" لعائلتها.
وتقول في حديث صحفي: "كنا نذهب إلى البحيرة كل عطلة صيفية. كان أطفالي يركضون بجانب المياه ويحاولون اصطياد السمك بصناراتهم البدائية التي يصنعونها بأيديهم. كانت ضحكاتهم تملأ المكان"، مضيفة القول: "لدينا كم كبير من الصور ومقاطع الفيديو قرب البحيرة، حيث الطبيعة والمرح، وكلّنا أمل في أن تعود الحياة لهذا المكان الجميل".
وحسب تقارير رسمية، فإن أسباب جفاف البحيرة تعود إلى تراجع معدلات الأمطار في المنطقة الشمالية خلال العامين الماضيين، وانخفاض منسوب الخزين المائي في سد العظيم الذي كان يغذّي البحيرة. وتشير التقارير إلى أنّ موجات الحرارة الشديدة، وضعف الإمدادات المائية من السدود، وعدم وجود خطط حكومية عاجلة لإنعاش الخزانات الطبيعية، جعلت من جفاف البحيرة أمراً حتميّاً.
ذهبت أيام الصيد والشواء!
في السياق، يتحدث يوسف عبد الرحيم (28 عاماً)، من قضاء الشرقاط، عن الأيام التي كانت تجمعه رفقة أصدقائه قرب البحيرة. ويقول: "كنا نأتي في عطلة يوم الجمعة، نغنّي ونصطاد السمك ونشويه، ونستمتع في تلك الأجواء حتى ساعات المساء"، مضيفا في حديث صحفي قوله: "كانت البحيرة ملاذاً ننسى معه تعب الأسبوع، فتعود إلينا مشاعر الفرح والحياة".
ويشير يوسف إلى أن هذه البحيرة، إضافة إلى كونها مصدرا مائيا مهما، كانت متنفسا وحيدا لأبناء المدن الصغيرة القريبة منها.
فيما يقول فاضل عباس (60 عاماً)، وهو مزارع في قرية قريبة من البحيرة، أنّه كان يعتمد على هذا الشريان الحيوي في زراعة القمح وتربية الماشية.
ويضيف قائلا: "كنا نعتاش عليها. حتى ماشيتنا كانت تجد المراعي الغنية بالحشائش حول البحيرة. لكن اليوم، لا زرع ولا عشب. وفي حال استمرّ الجفاف، سيقتل كل شيء".
وكانت البحيرة سبباً لبناء علاقات بين الزائرين والسكان القريبين منها – وفقا للمواطنة ناهدة عزيز (47 عاماً)، من محافظة ديالى. إذ تقول أنّها كوّنت طيلة فترة ارتيادها البحيرة علاقات مع سيدات من قرى مجاورة، مضيفة قولها: "تعرّفتُ على نساء كثيرات هناك. كنّا نطبخ معاً ونتبادل الطعام والقصص. نضحك ونشرب الشاي على ضفاف المياه. بعضهنّ ما زلن يتصلن بي ويؤكّدن أن المياه ستعود حتماً إلى البحيرة. وفي حين اننا نقصد البحيرة للاستمتاع فقط، تتوقف معيشة السكان هناك على انتعاشها بالمياه".
جفاف الذاكرة الجمعية!
إلى ذلك، يرى الباحث الاجتماعي مهند الطائي أنّ جفاف بحيرة آمرلي لا يغيّر ملامح الطبيعة وحسب، بل يصيب الذاكرة الجمعية لسكان المنطقة وزوّارها.
ويوضح في حديث صحفي أن "الأماكن الطبيعية ليست مجرد فضاءات جغرافية، بل هي محطات نفسية ترتبط بها العائلات بعواطفها وتاريخها. وحين تختفي، يشعر الناس وكأنّهم فقدوا جزءاً من ذواتهم".
ويحذّر الطائي من أنّ "جفاف البحيرات والأنهار في العراق لم يعد مجرّد ظاهرة بيئية، بل قضية اجتماعية تمسّ الاستقرار الريفي، وتدفع البعض إلى الهجرة نحو المدن. الأمر الذي يخلف تبعاتٍ نفسية واجتماعية تؤثر على استقرار المجتمع، وقد تولّد مشكلات خطيرة جراء الاقتلاع القسري لفئة معينة من المواطنين من بيئتهم وحاضنتهم الطبيعية".
ويشير إلى أنّ جفاف بحيرة آمرلي يؤدّي إلى تقليص عدد المواقع الطبيعية الجميلة التي تعزّز المشاعر الإيجابية لدى المواطنين. ويقول: "باختفائها نفقد ما تبعثه هذه الأماكن من طاقة إيجابية نحن بأمسّ الحاجة إليها في العراق".
وتشكّل المياه الواردة إلى العراق من تركيا وإيران، النسبة الأكبر من الخزين المائي المحلي. لكن تراجع الإمدادات المائية بنسبة كبيرة من البلدين المجاورين، إلى جانب انحسار معدلات الأمطار خلال الشتاء، والارتفاع الحاد في درجات الحرارة صيفاً، كلها عوامل فاقمت موجة التصحّر والجفاف في البلاد. الأمر الذي أدّى إلى اختفاء أو تقلّص العديد من البحيرات والمسطّحات المائية.
وفي تصريح صحفي أفاد المتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال، بأنّ الوضع المائي هذا العام أسوأ مقارنةً بالعام 2024، مشيراً إلى أنّ العراق لا يحصل سوى على أقلّ من 40 في المائة من استحقاقه المائي.
ولفت إلى أن الخزين الاستراتيجي للمياه تراجع إلى نحو 10 مليارات متر مكعب، في حين أنّ الحاجة الفعلية تقتضي توفير 18 ملياراً، مشيرا إلى أن هذا الانخفاض في مناسيب المياه لم يُسجّل منذ 80 عاماً!