اخر الاخبار

 

بغداد - طريق الشعب

 

على مدى سنوات، لم تتجاوز وعود الحكومات المتعاقبة وحتى الحالية، بمعالجة أزمة العشوائيات، حدودَ التصريحات والخطاب الإعلامي الموجه، فيما ظل الواقع يتفاقم حتى بات العراق اليوم أمام أكثر من 4 آلاف تجمع عشوائي، يؤوي ما يزيد على ثلاثة ملايين مواطن.

فيما تحولت هذه التجمعات اليوم، الى شواهد حيّة على فشل السياسات العمرانية، وتراكم الإخفاقات الإدارية، وغياب الرؤية التخطيطية، فيما تمتد جذور الأزمة إلى عقود من التساهل مع البناء غير المنظم وغياب نظام واضح لملكية الأراضي.

وبدلا من إنهاء معاناة قاطني هذه التجمعات وتوفير سكن لائق لهم، وجدت الحكومات المتعاقبة بما فيها الحالية، وكذلك القوى المتنفذة، في هذا الملف ورقة انتخابية جاهزة للاستثمار السياسي والاقتصادي، وحتى العسكري.

 

3.4 مليون نسمة في 4 آلاف تجمع عشوائي

وللايضاح اكثر قال المتحدث الرسمي باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، أن العراق يشهد نمواً سكانياً سنوياً يصل إلى نحو 2.5%، أي ما يعادل أكثر من مليون ومئتي الف نسمة سنوياً.

وأضاف الهنداوي في حديث صحفي، أن العاصمة بغداد تستحوذ على ما لا يقل عن 250 - 300 الف من هذه الزيادة، كونها تمثل قرابة ربع سكان العراق.

 

وأوضح أن المدينة "بحكم كونها العاصمة وامتلاكها مراكز التعليم والصحة والتجارة، تعدّ جاذبة للسكان القادمين من محافظات أخرى، وهو ما يضاعف الضغط على خدماتها"، لافتاً إلى أن وزارة التخطيط "تعمل عبر سياساتها التنموية على تحقيق توازن بين الزيادة السكانية والموارد والخدمات".

وبين أن وزارته أطلقت "خطة التنمية الخمسية (2024-2028)، فضلاً عن الوثيقة الوطنية للسياسات السكانية التي تضمنت 11 محوراً، تشمل الصحة والتعليم والسكن، وتمكين الشباب والمرأة، ودعم الطفولة، ومواجهة التغيرات المناخية، وتمكين الفئات الهشة وكبار السن وذوي الإعاقة".

وتابع أن هناك استعدادا أيضاً لإطلاق استراتيجية مكافحة الفقر الثالثة (2026-2030)، والتي ستستهدف بشكل خاص المحافظات والمناطق الأكثر فقراً.

واكد في ختام حديثه، ان معالجة ظاهرة العشوائيات تمثل أولوية، إذ تشير البيانات المتوفرة لدينا إلى وجود أكثر من أربعة آلاف تجمع عشوائي يقطنها نحو 3.4 ملايين مواطن.

العجز عن ايجاد حلول حقيقية!

من جانبه، قال أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي أن عجز الحكومة عن معالجة ملف التجمعات العشوائية، لا يعود إلى نقص الموارد المادية فحسب، وانما هو نتيجة تراكمات لسنوات طويلة من الإخفاقات السياسية والإدارية والهيكلية، جعلت الأزمة متجذرة ومعقدة للغاية.

وأضاف السعدي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن جذور المشكلة تعود الى السياسات المتضاربة في إدارة الأراضي خلال مراحل النمو العمراني، حيث جرى التساهل مع البناء غير المنظم في ظل غياب تخطيط فعّال ونظم ملكية واضحة، لتتحول تلك المساحات لاحقاً الى ملاذ للفئات المتضررة من البطالة والتهجير الداخلي ونقص السكن الاجتماعي.

وأشار إلى أن مكامن الخلل الأساسية تتمثل في غياب خريطة وطنية دقيقة للتجمعات وحقوق الأرض، وضعف مؤسسات التخطيط المحلي، وغياب التمويل المستدام لمشاريع الإسكان والبنية التحتية، إضافة إلى ثقافة سياسية تتعامل مع الملف كأداة آنية لا كإصلاح طويل الأمد.

وبيّن أن التعاطي السياسي مع قضية العشوائيات كان في معظمه ذا طابع انتخابي، حيث استُخدمت وعود التوظيف أو توزيع الأراضي وسيلة لكسب الولاءات بدلاً من إدراجها ضمن برامج مدروسة للقضاء الجذري على الأزمة، لافتاً إلى أن بعض المسؤولين أظهروا نوايا إصلاحية حسنة، لكن تحويل الملف إلى ورقة انتخابية أفقده الطابع المؤسسي والتقني اللازمين

وطرح السعدي خطة لمعالجة الأزمة تقوم على ثلاث مراحل متكاملة؛ ففي المدى القصير دعا إلى إجراء حصر رقمي شامل وتوثيق دقيق لحقوق الأرض والسكان، مع التركيز على حماية الجوانب الإنسانية وتوفير خدمات عاجلة مثل مياه شرب آمنة، شبكات صرف صحي مؤقتة، تزويد جزئي بالكهرباء، إضافة إلى برامج عمل مؤقتة تستثمر في صيانة البنية التحتية وتشغيل السكان المحليين.

أما في المدى المتوسط، فقد شدّد على ضرورة "تبني سياسة ترسيم وتراخيص تدريجية ترتكز على مبدأ “الترقية بدلًا من الإخلاء القسري”، من خلال منح عقود إيجار طويلة الأمد أو ضمانات ملكية مؤقتة تشجع السكان على الاستثمار في مساكنهم".

وفيما يخص المدى الطويل، دعا السعدي إلى إعادة هيكلة سياسات الأراضي والإسكان عبر إصلاحات تشريعية تنظم استخدام الأراضي وتفعل آليات الضريبة العقارية وجباية قيمة الأرض لتمويل مشاريع الإسكان.

كما طالب ببناء قدرات البلديات والمؤسسات الاستثمارية المحلية لتخطيط مدن مستدامة وتوفير سكن اجتماعي يتناسب مع قدرات الأسر محدودة الدخل، مع ربط السكان ببرامج تدريب مهني وسلاسل إنتاج محلية تحول التجمعات من عبء إلى رافعة اقتصادية.

وعلى صعيد التمويل، أوصى السعدي بإنشاء صندوق وطني للإسكان يُموّل بجزء من إيرادات النفط أو عبر إصدار سندات محلية مضمونة، إضافة إلى تحسين تحصيل الضرائب العقارية وتبني برامج دفع بالتقسيط وضمانات بنكية للمشروعات السكنية القانونية لضمان اكتمالها.

أما سياسياً، فقد نبّه السعدي إلى ضرورة "فصل الملف عن أي استغلال انتخابي، من خلال سن إطار قانوني يمنع منح الأراضي أو الامتيازات بقرارات استثنائية خارج خطط الدولة، مع إلزام السلطات بنشر جميع القرارات وإجراءات الترخيص وإتاحة الطعن القضائي السريع".

وحذر من أن "استمرار الحلول المؤقتة سيضاعف كلفة المعالجة مستقبلًا، بينما الالتزام بخطة واضحة قد يقود إلى تحول حقيقي خلال عقد من الزمن".

 

أراضٍ بديلة وخدمات أساسية

من جانبه، يجد الخبير الاقتصادي صالح الهماشي، أن مشكلة التجمعات العشوائية في العراق ليست حالة استثنائية، بل سبقتها إليها دول أخرى مثل مصر التي واجهت أزمات مشابهة.

وأضاف الهماشي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن العشوائيات لم تقتصر على كونها تجمعات سكنية فقط، إذ تحولت مع مرور الوقت إلى مراكز لنشاطات تجارية واقتصادية بحكم قربها من الأسواق وأماكن العمل، الأمر الذي يجعل التعامل معها أكثر تعقيداً".

واعتبر الهماشي أن هذا الملف "استُخدم سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، إذ جرى استغلال سكان هذه المناطق ــ ومعظمهم من الفقراء ــ من قبل جماعات مسلحة، ناهيك عن استغلالهم اقتصادياً وانتخابياً".

وزاد بالقول أن مرور عقود على وجود هذه التجمعات اضفى على سكانها “حقاً مكتسباً” في السكن، مشيراً إلى أن "بقاءهم في مواقعهم لعشرين أو خمسة وعشرين عاماً يجعل من الصعب إزالتهم أو إقناعهم بالرحيل، خاصة أن الأعراف والقوانين الدولية تعترف بحق السكن بعد سنوات محددة، وهو ما يعزز حجتهم الدستورية داخل العراق أيضاً".

وفي ما يخص الحلول، شدد الهماشي على أن معالجة الملف "تتطلب خطة حقيقية تقوم على تخصيص ميزانية واضحة، تبدأ بتخصيص أراضٍ بديلة لهؤلاء السكان في مناطق مخدومة ومتصلة بشبكة طرق داخل المدن، مع تزويدها بالبنية التحتية الأساسية".

كما دعا إلى "منح المستفيدين مبالغ مالية لبناء منازلهم بأنفسهم ضمن إطار منظم وقانوني، بدلاً من اعتماد الدولة فقط على إنشاء مجمعات سكنية جاهزة"، معتبراً أن "نجاح أي حل مرهون بوجود قرارات حاسمة وإرادة جادة لتنفيذها".