أعلنت الولايات المتحدة الامريكية أخيرا عن تعيين مارك سافايا، العراقي الكلداني الأصل، مبعوثا خاصا لها في العراق. وأثار هذا التعيين اهتماما وجدلا في الأوساط السياسية والإعلامية واوساط الرأي العام، داخل العراق وخارجه.
ثالث مبعوث امريكي بعد ٢٠٠٣ ، في مقطع زمني حساس ليس فقط بالنسبة للعراق، بل وللمنطقة. فهو يجيء بعد قمة شرم الشيخ ووقف الحرب العدوانية الصهيونية على سكان قطاع غزة والشعب الفلسطيني عموما، وبعد التطورات في لبنان وسوريا واستمرار اعتداءات دولة الاحتلال عليهما، كذلك الضغوط الامريكية متعددة الاشكال على العراق، ليبتعد عن ايران ويتخلص من السلاح خارج مؤسسات الدولة ويفكك ما سواه، وبعد التهديد بأشد العقوبات في حال التهاون في ذلك، والى جانب تشديد العقوبات على ايران والتلويح بمعاودة مهاجمتها عسكريا .
ويأتي المبعوث الجديد عشية الانتخابات البرلمانية العراقية الجديدة، وما تشهد من تدافع شرس بين الأقطاب المتنفذين ليس على عضوية البرلمان فقط، بل أساسا على المواقع الثلاثة الأولى في الدولة، وسط انقسامات حادة في شان العلاقة مع كل من أمريكا وايران.
ولا يقل الملف الاقتصادي أهمية عن تلك الملفات الشائكة والعالقة، وانعدام المقاربة الوطنية الموحدة في التعامل معها. خصوصا لجهة المعارضة الأمريكية لما يسمى " النفوذ الاقتصادي الصيني في العراق ". ولاقى هذا الضغط أخيرا استجابات من الجهات الرسمية العراقية، خاصة في مجال النفط والعقود التي ابرمت مع شركات أمريكية، جرى فيها التخلي عن عقود الخدمة لصالح الشراكة ، وهي عودة غير حميدة لتيسير التحكم بالنفط العراقي وهيمنة الشركات عليه. وهنا يجدر التذكير بما قاله ترامب في مؤتمر شرم الشيخ من ان "العراق بلد مليء بالنفط ، لديهم الكثير من النفط لدرجة انهم لا يعرفون ماذا يفعلون به، وهذا بحد ذاته مشكلة كبيرة عندما تملك الكثير ولا تعرف كيف تتصرف به"!
ويشكل تعيين سافايا تجاوزا للطرق الدبلوماسية التقليدية، ويجيء ضمن الظروف المتشابكة داخليا وإقليميا، ومساعي ادارة ترامب الدائبة لتمديد "الاتفاقات الابراهيمية" والتطبيع مع الكيان الصهيوني. فعلى أيّ الملفات سيركز سافايا ؟ قبل هذا وذاك تتوجب الإشارة الى ان التعيين بحد ذاته لا يعكس وضعا طبيعيا، بل ربما تريد إدارة ترامب عبره ان تقول لنا ان أوضاع بلدكم الاستثنائية تتطلب إجراءات استثنائية، مع اقتراب الموعد المفترض لانهاء وجود قوات التحالف الدولي، الذي بدأ غداة تمدد داعش الإرهابي في أراضي الوطن.
وطبيعي ان يثير هذا التعيين قلقا عراقيا وطنيا مشروعا، ليس فقط ارتباطا بغموض مهمته والملفات المراد تعامله معها، بل كذلك بالنظر لتعامل المبعوثين الامريكيين السابقين وممارستهم دور "المندوب السامي"، مثلما فعل بول بريمر وبريت ماكغورك.
وبغض النظر عن دوافع هذا تعيين المبعوث الثالث هذا، وقول سافايا ان مهمته "تتركز على إعادة بناء الثقة وتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين العراق وواشنطن"، ورفعه شعار "لنجعل العراق عظيما من جديد "، فان هذا الاجراء الأمريكي المنفرد يؤشر من جانب آخر وجود مشكلة عراقية داخلية، وهي حقا كذلك. وهذا ما تجلى في هشاشة المواقف السياسية والرسمية من هذا التعيين، والتي تعكس عمق الانقسامات الداخلية، التي تحول دون بلورة موقف وطني موحد، خصوصا في موضوع سيادة العراق واستقلالية قراره الوطني وشبكة علاقاته الإقليمية والدولية، والقدرة على إقامة علاقات متوازنة تحكمها المصالح المشتركة.
ان مثل هذا الاجراء الأمريكي غير الاعتيادي، وفي هذه الظروف الحساسة والمعقدة، يتوجب ان يكون رسالة تحذير وجرس انذار للعراقيين، كي يعيدوا التقويم والمراجعة، والتيقن من ان أوضاع البلد الداخلية لن تُحل بالتماهي مع اجندات خارجية، او على مكاتب هذا المبعوث او ذاك. وانما هي قبل كل شيء بحاجة الى إرادة وطنية عراقية قوية، ترتقي الى مستوى ما يحيط البلد من إشكالات بنيوية جدية، وتمضي عبر اصطفاف وطني وبمشروع وطني، لإنقاذ البلد مما هو فيه. وبعكسه سيزداد عدد المبعوثين الخاصين، وتتفاقم تدخلات الاخرين الخارجيين بمختلف الاشكال والانواع. ذلك ان ضعف الوضع الداخلي وهشاشته، يغريان الآخرين بالتدخل تحقيقا لمصالحهم ومآربهم .