تأتي هذه القصيدة الشعبية التي كتبها الشاعر يوسف المحمداوي كنبض حيّ من قلب الألم العراقي، وكأنها تصدر من ذلك المكان الداخلي الذي لا يزال يؤمن بأن الكلمة قادرة على مواجهة الخراب، ولو بالنغمة الأخيرة للعود.
يوسف المحمداوي ليس مجرد شاعر شعبي؛ إنّه حامل لذاكرة جيلٍ كامل، من الأرض الجنوبية التي علّمت أبناءها كيف يضعون دموعهم في وزن، وأحلامهم في قافية، وجراحهم في صوت يمتلك قدرة استثنائية على تحويل التعب اليومي إلى شعر، وتحويل الأسى السياسي إلى موسيقى، وكأن الحزن عنده ليس حالة بل أداة إبداع، وليس عائقاً بل وقوداً يشحذ اللغة ويمنحها حرارة الوجدان الشعبي. إنّ صدقه العاطفي، وبساطته المركّبة، واشتباكه العميق مع الواقع، يمنح قصيدته سلطة روحية لا يملكها كثيرون. فهو يكتب بيدٍ من الطين العراقي، وصوتٍ من تعب الفقراء، وعينٍ لم تتعب من النظر إلى الأمل برغم كل شيء.
في قصيدته "دايني ون ياعود" يتجلّى يوسف في أفضل صوره: شاعرٌ يلمّ آلام الناس مثل حصّادٍ عجوز يعرف متى ينحني ومتى يرفع رأسه للريح. يكتب عن الحزب الشيوعي العراقي لا من باب التمجيد، بل من باب الوفاء لظلٍّ نظيف لم يغادر ذاكرة الناس. يكتب عن الهور، والنخل، والمحرومين، وكأن هذه المفردات ليست كلمات بل جراح وطنٍ كامل. يوسف المحمداوي شاعر يضع الحقيقة على الطاولة بلا خوف، ويترك العود يعزف ما عجز السياسيون عن قوله، فتخرج قصيدته مثل نشيدٍ للوجدان الشعبي، ونحيبٍ نبيل على كل ما انكسر في العراق وما يزال ينتظر من يصلحه. إنّه شاعرٌ يعرف كيف يصنع من الوجع جمالاً، ومن المرارة معنى، ومن خسارات الناس قصائد لا تُنسى. تبدو قصيدته في عمقها الباطن لا مجرد نص غنائي شعبي يواجه الخيبة السياسية، بل بنية نفسية مجروحة تكشف عن ذات مثقلة بالفقد، وتاريخ جمعي مدمى، لم يتمكن العراقي من الخروج من قبضته. خطاب القصيدة موجه إلى العود، لكنه في الحقيقة موجه إلى الأنا الجريحة، وإلى وطن تحول من موضوع حب إلى موضوع قلق وصدمة. منظور التحليل النفسي - قراءة في الجرح، والإسقاط، واللاشعور الجمعي: منذ السطور الأولى، يقدم الشاعر العود لا بوصفه آلة، بل بوصفه جهازا إسقاطيا يحمل عليه مشاعر القهر والخذلان والحرمان. فـ"اعزف حزن يا عود" ليست جملة غنائية؛ إنها فعل نفسي يعبر عن حاجة الذات إلى تنفيس الكبت المتراكم. فالعراق في "اللاوعي " الجمعي، صار مكانا لا يتوقف عن إعادة إنتاج الفقد. وهنا ينبثق ما يسميه التحليل النفسي "التكرار القهري": كلما حاول العراقيون كتابة قصيدة عن الوطن، عادوا إلى ذات المفردات: الهور الذي يموت، الجوع، النخل، المنجل المفقود، الليل والحزن. كأن الذاكرة الجمعية، المنحبسة بين الحرب والجوع والمنفى والنهب، لا تجد مخرجا سوى إعادة صياغة الألم ذاته.
كذلك يظهر في القصيدة ما يشبه "الحداد غير المكتمل"؛ فالعراقي، وفق الخطاب الشعري، لم ينه بعد عملية فقدانه لوطن مستقر أو مشروع سياسي أخلاقي. الحداد هنا لا يتحول إلى شفاء، بل يبقى معلقا، يتحول إلى نواح دائم: "اعزف بقهر"، "اصرخ حزن ياعود"، "ون بوجع" كل هذه الأفعال تدل على نفس لم تستطع أن ترمم فوضى الداخل، فاستعانت بما يتوفر من رموز، كأن العود صار أبا غائبا أو مركز ثبات بديل في وسط واقع متشظ.
أما حضور الحزب الشيوعي فهو ليس حضورا سياسيا خالصا، بل موضوع مثالي مقدس في اللاوعي الجمعي للفقراء؛ يشبه "الأب الأخلاقي" الذي لم يسرق ولم يشارك في العبث، انه تجسيد لما يعرف في التحليل النفسي بـ Ideal Ego - صورة الذات المثالية، التي يتمنى الإنسان لو تكون واقعا، لكنه يعرف أنها ستظل بعيدة في واقع يتآكله الفساد.
القصيدة تعيد إنتاج علاقة الأنا بالرمز السياسي، ليس بوصفه مؤسسة سياسية، بل بوصفه موضوع حب مأزوم: حب نقي لكنه عاجز عن تحقيق ذاته. منظور المادية-الديالكتيكية الماركسية - البنية، الواقع، التناقض: من منظور ماركسي، لا يمكن قراءة هذه القصيدة دون ربطها بالبنية الاجتماعية التي أفرزتها. فالنص ليس مجرد شكوى شاعر، بل هو صوت طبقي واضح؛ صوت الفقراء الذين يعيشون في تضاد مباشر مع منظومة النهب القائمة.
القصيدة كنص طبقي: إن تكرار مفردات: "الجوع"، "الفرهود"، "المنجل المفكود"، "الهور ليش انتحر"، "البوگ"، هو ليس مجرد تنميق لغوي، بل تحليل طبقي يربط بين الخراب المادي والخراب الروحي. القصيدة تفضح التناقض الأساسي في العراق طبقة فاحشة الثراء بلا إنتاج، وطبقة مسحوقة بلا حماية. وحين يقول الشاعر إن الحزب "ما دخل جيبه فلس"، فهو هنا يعيد إنتاج صورة الطبقة الثورية النزيهة مقابل الطبقة الطفيلية - وهذه ثنائية ماركسية خالصة: تؤشر الصراع بين العمل والنهب، بين الإنتاج والطفيلية.
الهور والنخل كرموز لبنية اقتصادية منهارة: في الوعي المادي التاريخي، البيئة ليست مجرد خلفية، بل هي جزء من علاقات الإنتاج. القصيدة إذن تقدم الهور المنتحر لا كمجرد صورة شعرية، بل أيضا كمؤشر على انهيار منظومة الإنتاج الريفي التي كانت تاريخيا حاضنة للطبقة العاملة الزراعية. إن موت الهور هو موت طبقة كاملة؛ وموت المنجل هو موت القدرة على العمل؛ وموت النهر هو موت الدورة الاقتصادية الطبيعية. هذه ليست رومانسية، إنها مادية صلبة.
التناقض الديالكتيكي - بين الحلم والواقع: القصيدة تمشي على خط ديالكتيكي واضح: كل مقطع يطرح نقيضا لما قبله: الحزن/الأمل الجوع/الكرامة الماضي النظيف/الواقع الفاسد الوطن/النهب الهور/البارود .هذا الصراع المستمر يولد ما يسميه ماركس بـ الحركة؛ فالقصيدة ليست ساكنة، بل تتحرك بين قطبين متصارعين، وهذا يجعلها نصا ديالكتيكيا بامتياز. إسقاط على الواقع العراقي - الذات الممزقة والبنية المختلة: العراق اليوم هو تجسيد حي لنفس جريحة وبنية اجتماعية مختلة. القصيدة تقول ذلك بدون تنظير: - العراق يعيش حالة فصام بين ما يريد وما يحصل عليه. - الناس يريدون العدالة، لكنهم محاطون بالنهابين. - يريدون وطنا، لكنهم يحصلون على خرابة. - يريدون رموزا نظيفة، لكن السلطة تقدم لهم أسوأ ما في المجتمع.
هنا يتجلى ما يسميه التحليل النفسي بـ "الهوة بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع": القصيدة تبقي اللذة (الوطن المثالي، الحزب النظيف، النخل، الهور) في مستوى الحلم، بينما الواقع يفرض البارود والفرهود والجوع والنهب والعوز. ومن منظور ماركسي، هذه الهوة ليست قدرا نفسيا، بل نتيجة لبنية اقتصادية سياسية تقوم على الريع والانهيار الطبقي، حيث تتحول الدولة إلى شركة للنهب، وتتشرذم الطبقات، وينتج عن ذلك إنسان محطم نفسيا يبحث عن ذاته في القصائد، لأن الواقع لم يعد صالحا للعيش.
الخلاصة الأقرب إلى جوهر النص: هذه القصيدة ليست قصيدة؛ إنها صرخة مكبوتة، وهي ليست نواحا؛ إنها تقرير طبقي، وليست غناء شعبيا؛ إنها اعتراف نفسي بندبة لن تشفى قريبا.
"ياعود" ليست نداء لآلة موسيقية، بل هي نداء للعراق نفسه: العراق الذي يتحول من وطن إلى موضوع علاج نفسي، ومن أرض خصبة إلى ساحة نهب، ومن حلم جميل إلى جرح مفتوح . القصيدة، بعمقها النفسي والطبقي، تجسد مأساة العراقي اليوم: إنسان يملك وعيا كبيرا بما يحدث، لكنه لا يملك قوة تغييره؛ فينفس عبر العود، وينادي النخل، ويبكي الهور، ويحاول أن يبقي نفسه بشرا.. في بلد يصر على تحويل البشر إلى جثث أو أرقام.
القصيدة تتجاوز الكلمات انها نص كتب بالدم، لكنه يغني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب واكاديمي
***************************
القصيدة: دايني ون ياعود / يوسف المحمداوي
الإهداء للحزب الشيوعي العراقي الذي أشاركه نعمة الفقراء، بعدم الفوز بهذه الحرب المقلقة والمثيرة لجدل المواطن، خشية من سرقات قرن أخرى. فمبارك لكم الفوز بنزاهة تاريخكم، الثري بالمواقف والتضحيات.
إعزفْ حزن ياعود
عالراح والموجود
اعزف يعود بقهر
واسأل بقايا البشر؟
العدل يمته يسود
الحزب ماله ذنب
عدنه الحرامي صعب
وكلمن خسر هالحرب
بالبوگ مامريود
عالوطن ون ياعود
خليك مثل الأمس
شامخ بعزة نفس
ما دخل جيبك فلس
من ديرة الفرهود
غني الحزب ياعود
عادلك ثورة نصر
وكامل شياعك فكر
ومظفرك بالشعر
شاهد على المشهود
سمّعْ الحزب ياعود
لا صارت ولا جرت
علتي ولاهي انتهت
لا ذمه عدي وبخت
من اضحك على المعبود
لوعْ بحزن ياعود
اعزف وسمع الگمر
رگص السهر والشجر
وانشد بقايا النهر
بلكت يعود حمود
كثر الحزن ياعود
حمود ما ضي المشه
بيه المحبه عشه
والدوني هسه انتشه
والجوع للمگرود
اصرخ حزن ياعود
شتريگ ويه الصبح
مجروح حتى الجرح
والزرع رايد فلح
يالمنجلك مفگود
صيح بحزن ياعود
الصار بينه وسده
ياعود توه ابتدى
دمع الحدايق نده
مشتهي يبوس ورود
لولي بشجن ياعود
اعزف يعود بقهر
واسال طيور النهر
الهور ليش انتحر
من ريحة البارود
غنّي بحزن ياعود
الهور دمعة وطن
جرحّت خد الزمن
والباگنه بالمحن
مايملي عينه الدود
سمع النخل ياعود
خليني ريشه بجنح
برد الحدايق سمح
تعبني هذا الجرح
خلاني مثل العود
صيح بألم ياعود
نومني ضفه بنهر
فزرني زخة مطر
يمته اشوفك فخر
يا وطن بس مصيود
سمعني ون ياعود
سمّعْ يعود الشمس
وأسألها عن الأمس
مابيها جية عرس
وانزع هدومي السود
دايني ون ياعود
سمعني احلى شجن
نسيني هذا الزمن
بلكت يعود الوطن
مثل الأمس محسود
ون بوجع ياعود