اخر الاخبار

أقدّم في هذا المقال قراءة لمشروع فالح عبد الجبار، احتفاءً باختياره شخصية مهرجان طريق الشعب لعام 2025، مركّزًا على إسهاماته في فهم بنية الدولة والمجتمع المدني، وطبيعة العنف والاستبداد في العراق، بوصفها مفاتيح أساسية لتحليل التحولات السياسية والاجتماعية في البلاد، وفهم ما يمكن تسميته "الديمقراطية المعلقة". هذه الحالة ليست ديمقراطية مستحيلة ولا ديمقراطية ممكنة كما ناقش عبد الجبار في دراسته: الديمقراطية المستحيلة – الديمقراطية الممكنة: نموذج العراق (1998)، بل هي وضع يُنجز فيه الانتقال الديمقراطي شكليًا من خلال انتخابات ودساتير، لكنه يظل مقيدًا بهشاشة المؤسسات، وسيطرة الولاءات الطائفية والعشائرية، وضعف المجتمع المدني، ما يمنع تحقيق الإصلاح الحقيقي وحماية الحقوق والمواطَنة.

هذه القراءة لا تكتفي بتسليط الضوء على أطروحاته فحسب، بل تربط بين رؤيته ومشروع علي الوردي، لتقديم صورة شاملة للمجتمع العراقي من الفرد إلى الدولة، ومن الثقافة والوعي إلى المؤسسات والهويات المتعددة.  في هذا السياق، يصبح من الضروري وضع عبد الجبار إلى جانب علي الوردي، عالم الاجتماع الأكثر شهرة في العراق، الذي حظي بجمهور واسع من القرّاء والباحثين، بينما لم ينل عبد الجبار نفس الانتشار الجماهيري، رغم أن رؤيته تمتاز بالعمق التحليلي وقدرتها على تفكيك البنى الاجتماعية والسياسية بطريقة لم يغُطّها الوردي بنفس التفصيل. يقدّم مشروع عبد الجبار قراءة مركّبة للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، ويكشف كيف أن العنف والاستبداد ليسا مجرد ظواهر سطحية أو طارئة، بل هما متجذّران في البنية المؤسسية والسياسية نفسها، وفي الطريقة التي تُدار بها الدولة، وتُوزّع السلطة والثروة، ويُتشكّل فيها فضاء المواطَنة. بالمقابل، ركّز الوردي على الإنسان الفرد والثقافة، محللاً التناقضات الداخلية والازدواج القيمي الذي يفرزه التحوّل بين البداوة والحضارة. بهذا المعنى، يمكن القول إن الوردي يُعنى بالضمير الجمعي، بينما عبد الجبار يُعنى بالعقل النقدي والسياسة المؤسسية، ليشكّل الجمع بينهما رؤية متكاملة لفهم العراق من الداخل والخارج، من الفرد إلى الدولة، ومن الثقافة إلى السياسة. وفي إطار هذه المقارنة، تسمح لنا هذه القراءة، باستعارة الخيال الاجتماعي والسياسي، لتخيل ما كان يمكن أن يقوله كل منهما لو عاشا اليوم، وما كانت ستكون وصيتهما للمجتمع العراقي في زمن التحولات المعقدة: الوردي، مفسرًا التناقضات الداخلية للوعي الجمعي، وعبد الجبار، مفككًا آليات العنف البنيوي وسياسات الدولة، معًا يشكّلان مشروعًا معرفيًا يربط بين الثقافة والسياسة، بين الإنسان والدولة، بين النظرية والممارسة، ويقدّم نموذجًا للفكر الاجتماعي والسياسي العراقي المعاصر.

الدولة والمجتمع المدني والعنف في رؤية عبد الجبار

ينظر فالح عبد الجبار إلى الدولة والمجتمع المدني والهوية والعنف كعناصر مترابطة لا يمكن فهم التحولات العراقية الحديثة دونها. في كتابه "الدولة: اللّوياثان الجديد"، يصوّر الدولة العراقية كنمط يشبه "اللّوياثان"، حيث تبتلع المجتمع بدل أن تبنيه، من خلال تركيز السلطة، اقتصاد الريع، والسيطرة البيروقراطية، ما أضعف المجتمع المدني ومؤسساته الوسيطة مثل النقابات والجمعيات، وأدى إلى تفكك الهويات الاجتماعية وارتفاع العنف البنيوي. ويمكن رؤية هذا النمط التاريخي في تجربة الدولة الشمولية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، حين سيطرت أجهزة الأمن والبيروقراطية على النقابات والجمعيات المهنية والثقافية، وقيّدت النشاطات المستقلة، ما أفرغ المجتمع المدني من قدرته على التنظيم الذاتي وحماية مصالح المواطنين. يتقاطع هذا الطرح مع ما ورد في كتابه "اللادولة"، حيث يصف الواقع العراقي بعد عام 2003 بأنه مرحلة تفكك مؤسسات الدولة وضعف المجتمع المدني، مع تصاعد الانقسامات الطائفية والعرقية، في حين يواصل المجتمع المحلي إعادة إنتاج ذاته عبر الممارسات الثقافية والدينية. الدولة ليست جهازًا محايدًا، بل قوة تنتج أحيانًا البنى الاجتماعية والسياسية وأحيانًا تهدم المجتمع المدني، كما ظهر خلال الحكم الشمولي السابق، وهو ما يفسّر ظهور فراغ مؤسسي سمح بتنامي الفصائل المسلحة والصراعات المحلية على النفوذ. أما في كتابه "العمامة والأفندي"، فيركز على تحليل البنية الداخلية للحركة الشيعية، ويبيّن أن الشيعة ليسوا كتلة موحدة، بل مجموعة من جماعات متعددة تختلف بحسب المدن والعشائر والطبقات، وليس فقط وفق المرجعية الطائفية أو الدينية. هذه البنية المعقدة تتكرر في بنية المجتمع العراقي الأوسع، حيث تتشكل الهوية عبر طبقات متداخلة من مؤسسات، مدن، وعشائر، وليس فقط من الانتماء الديني أو الطائفي، وهو ما يجعل أي محاولة لتطبيق نموذج مركزي صارم معرضة للفشل أو لإعادة إنتاج العنف، كما شهد العراق بعد 2003 من خلال النزاعات الطائفية وتصاعد الفصائل المسلحة المحلية. ويؤكد أن المجتمع المدني الفعلي هو فضاء للمواطنين النشطين الذين يمارسون الحراك الاجتماعي والسياسي بشكل مستقل أو من خلال تفاعل حر مع الدولة. وقد تجلّى ذلك بعد 2003 في المبادرات الشبابية والثقافية والمدنية، مثل حملات الدفاع عن حقوق المرأة في بغداد والبصرة، ونشاطات منظمات المجتمع المدني في المحافظات لتعزيز التعليم المدني والمشاركة الشعبية، رغم التحديات الأمنية والسياسية، ما يوضح أن وجود مجتمع مدني قوي شرط أساسي لأي إصلاح سياسي حقيقي. كما يوضح في كتابه "الأهوال والأحوال" أن العنف ليس ظاهرة خارجية أو طارئة، بل نتاج تفاعل البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية مع هشاشة الدولة وانقسام المجتمع المدني، إضافة إلى تمزق الثقافة وانهيار الحقول المعرفية، وهو ما يفسّر استمرار الأزمات رغم محاولات الإصلاح السياسي. ويربط بين العنف والهوية والبنية المؤسسية للدولة، موضحًا أن العنف متأصل في تركيبة السلطة، واقتصاد الريع، وغياب فضاء مدني مستقل، فيما تتشكل الهوية العراقية عبر طبقات متداخلة من مؤسسات ومدن وعشائر، وليس فقط وفق الانتماء الديني أو الطائفي. من هذا المنظور، أي محاولة لبناء الدولة أو الانتقال الديمقراطي التي تتجاهل هذه البُنى أو تغضّ النظر عن هشاشة المؤسسات، اقتصاد الريع، وسيطرة النفوذ العشائري، محكوم عليها بالفشل أو إعادة إنتاج العنف، كما شهد العراق بعد 2003. ويشير عبد الجبار في كتابه "الدولة، المجتمع المدني، والتحول الديمقراطي في العراق" الذي قدمه عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم  إلى أن التحول الديمقراطي ليس مجرد انتخابات أو صياغة دستور، بل عملية طويلة تتطلب تغييرات مؤسسية ومجتمعية متكاملة تشمل استقلال القضاء، سيادة القانون، فضاء عام نشط، مؤسسات قوية، والحدّ من اقتصاد الريع، مع مشاركة المواطنين كشركاء فاعلين في صناعة الدولة.

وبذلك، يقدم عبد الجبار إطارًا متكاملًا لفهم التحولات العراقية، موضحًا أن الإصلاح السياسي الحقيقي لا يمكن فصله عن البناء المؤسسي والاجتماعي والثقافي، وأن تجاوز العنف البنيوي يتطلب استعادة المواطَنة، تعزيز فضاء عام مستقل، وتفعيل المجتمع المدني، بحيث يصبح المواطن شريكًا فاعلًا في صناعة الدولة وليس مجرد تابع لها.

من الفرد إلى الدولة: فهم المجتمع عبر  قراءة الوردي وعبد الجبار

لفهم المجتمع العراقي بشكل متكامل، لا يمكن النظر إلى الفرد بمعزل عن الدولة أو المجتمع المدني، أو تجاهل العلاقة بين الهوية والعنف السياسي. في هذا الإطار، يكمل مشروع علي الوردي مشروع فالح عبد الجبار، فكل منهما يكشف جانبًا أساسيًا من البناء الاجتماعي العراقي. علي الوردي، في أعماله مثل شخصية الفرد العراقي ووعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري، ركّز على الفرد وثقافته وسلوكياته، محللاً ازدواج القيم بين البداوة والحضارة، وبين الولاء القبلي والانتماء المدني. ورصد كيف تتداخل العصبية القبلية مع قيم التسامح والنظام المدني، مما يولد صراعات داخل الشخصية العراقية وتناقضات اجتماعية مستمرة. تجسدت هذه الازدواجية في التاريخ العراقي الحديث، على سبيل المثال، في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كان الولاء القبلي والعشائري يواجه محاولات الدولة المركزية الحديثة لفرض النظام المدني والقانون، ما أدى إلى صراعات مسلحة بين القبائل وقوات الدولة. وفي العصر الراهن، تجلّت هذه التوترات خلال احتجاجات الشباب في 2011 و2015 و2019، حيث تزاوجت المطالب المدنية والاجتماعية مع رفض المحاصصة الطائفية، وبرزت الصدامات بين الولاءات التقليدية والمطالب الحديثة للديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

على الجانب الآخر، ركّز فالح عبد الجبار على الدولة وبنيتها وعلاقتها بالعنف والمجتمع المدني، موضحًا أن غياب المؤسسات الديمقراطية واستحواذ الدولة على مفاصل السلطة يؤدي إلى إعادة إنتاج العنف البنيوي والطائفية. في كتبه مثل الدولة، المجتمع المدني، والتحول الديمقراطي في العراق والعمامة والأفندي، أشار إلى أن الهوية العراقية ليست ثابتة، بل تتشكل عبر تفاعل مؤسسات الدولة، العشائر، الطوائف، والمناطق. مثال تاريخي على ذلك هو حكم الدولة الشمولية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، حيث سيطرت الدولة على الجمعيات والنقابات والطوائف، وقلّصت مساحة النشاط المدني المستقل، ما أدى إلى تشديد العنف الاجتماعي والسياسي، كما ظهر أثناء قمع الانتفاضات الداخلية مثل الانتفاضة الشيعية عام 1991 بعد حرب الخليج. بعد 2003، تجلت هذه الصراعات في صراع القوى السياسية الجديدة على السلطة والموارد، حيث أعادت الولاءات الطائفية والعشائرية إنتاج العنف البنيوي، بينما حاول المجتمع المدني إيجاد فضاءات مستقلة من خلال مبادرات شبابية وثقافية، مثل حملات الدفاع عن حقوق المرأة، مبادرات التعليم المدني، وحملات مكافحة الفساد في بغداد والمحافظات.

عبد الجبار يرى أن التحول الديمقراطي ليس مجرد إجراء انتخابات أو صياغة دستور، بل عملية تتطلب تغييرات مؤسسية ومجتمعية متكاملة تشمل استقلال القضاء، سيادة القانون، مؤسسات قوية، فضاء عام نشط، والحدّ من اقتصاد الريع. ومن الأمثلة المعاصرة، الانتخابات العراقية الأولى بعد 2005، والتي أُجريت في ظل مؤسسات هشة وانتشار الفساد السياسي، أسفرت عن ديمقراطية شكلية دون قدرة حقيقية على حماية المواطَنة وحقوق الأفراد، وهو ما يعكس هشاشة بنية الدولة والمجتمع المدني معًا. يتجلى التكامل بين مشروع الوردي ومشروع عبد الجبار في أن الوردي يدرس الإنسان العراقي من الداخل، وعلاقاته بالثقافة والوعي، بينما عبد الجبار يدرس الدولة والمؤسسات والمجتمع المدني. معًا، يشكّلان رؤية شاملة لتحليل المجتمع العراقي من الفرد إلى الدولة، ومن الصراعات النفسية والاجتماعية إلى الصراعات المؤسسية والسياسية، ومن الثقافة إلى السياسة، موفرين أدوات لفهم التحولات العراقية التاريخية والمعاصرة، والتحديات التي تواجه بناء الدولة والمجتمع المدني المستقل. إن الوردي يمثل ضمير المجتمع العراقي، الذي يكشف التناقضات الداخلية للإنسان ويعالج القيم، بينما عبد الجبار يمثل العقل النقدي الذي يسعى لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أسس عقلانية ومدنية. وفي فهم العنف، يرى الوردي أنه نابع من ازدواج القيم داخل الفرد، بين التسامح والعدوان، بين الطاعة والتمرد، بينما عبد الجبار يربطه بالبنية السياسية: الدولة الريعية تحتكر العنف لضبط المجتمع وليس لحمايته، والانقسامات الطائفية والعرقية ليست طبيعية بل نتيجة فشل مشروع الدولة الحديثة. كما يختلفان في مقاربة الدين؛ فالوردي يعالجه كمنظومة قيم تضبط السلوك، بينما عبد الجبار يجعله محورًا اجتماعيًا وسياسيًا لا ينفصل عن الظروف المادية والتاريخية، كما تجلّى في صعود أحزاب الإسلام السياسي بعد عام 2003 وتأثيرها على المجتمع المدني.

الازدواجية والقانون: دروس الوردي وعبد الجبار للعراق المعاصر

عند تصور فكر الوردي وعبد الجبار في سياق العراق بعد عام 2003، يظل تحليلهما ذا صلة وثيقة بالواقع المعقد. لو عاش الوردي اليوم، لربما كتب فصلًا جديدًا بعنوان "ازدواج ما بعد الطائفية"، حيث تحول صراع البداوة والحضارة داخل الفرد العراقي إلى صراع بين الولاء الوطني والانتماءات الطائفية أو الحزبية، بين خطاب المواطنة وممارسة المحاصصة. ولربما كتب الوردي ساخرًا عن تناقض العراقي الذي يتباهى بالحداثة والعقلانية، ويعلن تأييده للدولة المدنية أو المرشح الشيوعي النزيه، لكنه في صندوق الانتخاب يختار ويصوت لشخص من طائفته أو عشيرته، وكأن الانتخاب ليس ممارسة للمواطنة بل تمثيل للولاءات التقليدية. هذا التوصيف، المليء بالسخرية، لا يقلل من عمق التحليل، فهو يوضح كيف أن النزاعات والازدواجيات القيمية التي لاحظها الوردي على مستوى الفرد استمرت في الانتقال إلى البنية السياسية والاجتماعية بعد 2003، ما يجعل رؤيته صالحة لتحليل تعقيدات العراق المعاصر. لكنه كان ليلاحظ بعض المؤشرات الإيجابية مثل انفتاح الشباب على العالم وظهور حركات احتجاجية مدنية. أما فالح عبد الجبار، فكان سيركز على تفكيك أشكال العنف البنيوي الجديدة، مثل تشظّي السلطة بين الطوائف والأحزاب، وتسييس المجتمع المدني واحتوائه، مؤكدًا أن الديمقراطية العراقية تحققت شكليًا لكنها افتقدت مضمونها المؤسساتي. وكان سيشير بلا شك إلى ضرورة بناء دولة قانون حقيقية ومجتمع مدني قوي، وهي المطالب التي تتردد شعاراتها على ألسنة الأحزاب باستمرار، لكنها في التطبيق تُنكَر، حيث تعود الولاءات الطائفية والمصالح الضيقة لتقوّض أي محاولة لإرساء حكم القانون أو تمكين المواطنين من ممارسة حقوقهم بحرية. مثال على ذلك، الانتخابات العراقية بعد عام 2005، التي أُجريت في ظل غياب مؤسسات مستقلة ومنافسة حزبية قائمة أساسًا على الولاءات المذهبية، ما أدى إلى ولادة "ديمقراطية شكلية" مصحوبة بارتفاع مستويات الفساد والانقسام الاجتماعي. بهذا التكامل بين منهجي الوردي وعبد الجبار، يمكن فهم العراق بعد 2003 من زاويتين متكاملتين: الوردي يسلط الضوء على ازدواجية الفرد والصراعات الداخلية للقيم والثقافة، فيما يعالج عبد الجبار آليات الدولة والعنف البنيوي والمجتمع المدني، موفرًا رؤية شاملة للعراق من الداخل والخارج، من الإنسان إلى المؤسسات، ومن الوعي الجمعي إلى البنية السياسية. على صعيد ما تحقق من رؤاهما، يمكن القول إن نبوءة الوردي بشأن تفاقم التناقض القيمي وضرورة إصلاح الوعي الجمعي تأكدت جزئيًا، وكذلك نبوءة عبد الجبار بشأن إعادة إنتاج الاستبداد إذا غابت المؤسسات المدنية. ومع ذلك، لم يتحقق الإصلاح الثقافي العميق الذي دعا إليه الوردي، ولم يكتمل مشروع بناء الدولة المدنية الذي بشّر به عبد الجبار، وما زال المجتمع المدني بحاجة إلى استقلال وقوة. لو تحدث الوردي اليوم، ربما كان ليقول: مشكلتكم ليست في فساد السياسيين فقط، بل في بنية التفكير الاجتماعي التي تتقبل الفساد بوصفه أمرًا طبيعيًا. أصلحوا عقولكم قبل أن تصلحوا حكّامكم، في حين كان عبد الجبار سيضيف: لا ديمقراطية بلا دولة قانون، ولا دولة قانون بلا مجتمع مدني. المجتمع الذي يخاف الحرية لا يمكن أن يحميها. وفي هذا، يتفقان على أن العراق يعيش بين وعي جديد يتشكل ودولة قديمة ترفض التجدد، وأن المجتمع العراقي يمتلك طاقة هائلة على التجدد، وأن الوعي لا يموت بل يتأخر فقط.

يمثل الوردي وفالح عبد الجبار مرحلتين متكاملتين في تاريخ الفكر الاجتماعي العراقي: الأول أسّس لعلم اجتماع الثقافة والإنسان، والثاني أسّس لعلم اجتماع الدولة والمجتمع المدني. كل منهما سعى إلى تشخيص أزمات العراق المزمنة من زاويتين مختلفتين تتكاملان في الجوهر، من الإنسان إلى الدولة، ومن الوعي إلى البنية، ومن النقد إلى الأمل، لتقدّم رؤية مستمرة نحو عراق أكثر وعيًا وعدلاً وإنسانية. ومن هذا المنظور، يمكن تخيّل وصيتهما لنا اليوم: إصلاح الذات والمجتمع المدني معًا، والمثابرة على بناء دولة عادلة، خالية من الطائفية والفساد، ووطن يحتضن العقل والضمير معًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في الأصل مداخلة قدمتها في  الندوة الخاصة عن فالح عبد الجبار شخصية مهرجان طريق الشعب العاشر، بتاريخ 31-10- 2025.