التعريب والتغريب مصطلحان متقابلان في الفكر العربي الحديث، يعكسان جدلية العلاقة بين الذات والآخر، بين المحافظة على الهوية والانفتاح على العالم. فالتعريب، في معناه اللغوي والثقافي، يشير إلى عملية تكييف العناصر الأجنبية، سواء أكانت لغوية أم فكرية أم علمية، لتتلاءم مع البنية العربية في اللغة والثقافة والتقاليد السائدة. أما التغريب، فيدلّ على اتجاه معاكس يهدف إلى تقليد الغرب ومحاكاته، لا في المنجزات فحسب، بل في أنماط التفكير والقيم والعلاقات الاجتماعية أيضًا. ومن ثم، فإن المفهومين لا يعبّران فقط عن موقف لغوي، بل عن رؤية حضارية أوسع تمسّ علاقة الأمة العربية بشخصيتها وبالآخر.
من الناحية اللغوية، كان التعريب ممارسةً قديمة في العربية منذ فجر الإسلام، حيث دخلت كلمات فارسية وسريانية ويونانية إلى المعجم العربي، وفارسية للقرآن الكريم بعد إخضاعها لأوزان العربية وقوانينها الصوتية، مثل "إستبرق"و"قنطار" و"فلسفة".
ومع اتساع الدولة الإسلامية واحتكاكها بثقافات متعددة، أصبح التعريب وسيلة لاستيعاب العلوم والمعارف دون المساس بهوية اللغة. وقد بلغ هذا الجهد ذروته في العصر العباسي زمن المأمون، حين تولّى المترجمون نقل مؤلفات اليونان الفلسفية والعلمية، وبعض آداب الفرس والهنود إلى العربية مباشرة، أو من لغة وسيطة كالسريانية، فلم تعد عملية التعريب مجردَ ترجمة لغوية، بل تملّكًا للمعرفة وتكييفًا لها في إطار المنظور العربي الإسلامي. وهكذا مثّل التعريب آنذاك أداةً فاعلة للتجديد الحضاري لا وسيلة للاستلاب الثقافي. والدافع لم يكن دائما ترفا ثقافيا، بل حاجة وجودية يمكن التعبير عنها بالقول المعروف "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم".
أما في العصر الحديث، فقد اكتسب التعريب بعدًا آخر مع ظهور الدول العربية الحديثة وبروز الحاجة إلى نقل العلوم الغربية الحديثة إلى العربية. فكان النقاش يدور حول كيفية التعريب لا ضرورته وشرعيته، إذ رأى بعض المفكرين والمترجمين والمجالس العلمية العربية أن نقل المصطلحات والمعارف ينبغي أن يتم بلغة الأمة كي لا تنقطع الصلة بين العلم والهوية التاريخية التي لا ينبغي أن تتعرض للتشويه والارتباك اللساني . غير أن حركة التعريب الحديثة واجهت تحديات لغوية وإدارية وتعليمية عملية، خصوصًا في مجالات الطب والهندسة والعلوم التطبيقية، حيث ظلّت المصطلحات الأجنبية مهيمنة في الجامعات ومراكز البحث، خلافا لما حصل في لغات أخرى قد لا يكون لها ما للغة العربية من تاريخ وسعة أفق وقدرة على الاستيعاب. ومع ذلك، ظلّ التعريب في الفكر العربي رمزًا للسيادة اللغوية والاستقلال الثقافي، ومحاولةً لإعادة إنتاج الحداثة لحساب الذات، لا لحساب الآخر.
وفي مقابل ذلك، يُفهم التغريب من جهة أخرى بوصفه نزعة تتجاوز الإعجاب بالغرب إلى حدّ التماهي معه. وهو ظاهرة فكرية وثقافية بدأت تتبلور في القرن التاسع عشر مع الاحتكاك المباشر بالحضارة الأوروبية نتيجة البعثات التعليمية والاحتلال الأجنبي ولغاته العلمية المهيمنة، وخصوصا الإنكليزية والفرنسية. وقد تجلّى التغريب في مظاهره اللغوية والثقافية على حدّ سواء، ونتيجةً لذلك أخذت اللغة العربية تفقد مكانتها أمام اللغات الأوروبية في مجالات الإدارة والتعليم، وبدأت مظاهر الحياة الاجتماعية تتأثر بالقيم الغربية في الملبس والمأكل والتفكير. وعدّ كثير من المفكرين، مثل مالك بن نبي ومحمد عمارة، أن التغريب شكل من أشكال "الاستلاب الحضاري" الذي يُفقد الأمة قدرتها على الإبداع الذاتي ويحوّلها إلى أمة مستهلكة لمنتجات الآخر الفكرية والمادية.
وهكذا لم يكن الموقف من التغريب موحدًا في العالم العربي؛ فبينما رأى فيه بعضُ النهضويين ضرورةً للخروج من الجمود والتخلف، اعتبره آخرون تهديدًا للهوية وانفصالًا عن الجذور. ومن هنا برز الاتجاه الوسطي الذي يدعو إلى التمييز بين الأخذ من الغرب، والتبعية اللغوية له، أي بين الاستفادة من منجزاته العلمية والتقنية ضمن إطار من الحذر والوعي النقدي، وبين الذوبان في قيم الغرب ومفاهيمه دون تمحيص. فالتغريب ليس قدرًا حتميًا، بل هو خيار ثقافي يمكن تجاوزه أو توجيهه بما يخدم مشروعًا نهضويًا عربيًا متوازنًا.
وعليه، يمكن القول إن التعريب يمثل فعلًا إيجابيًا يهدف إلى تمكين اللغة والثقافة العربية من استيعاب الحداثة وتمثّلها باللسان العربي وقرينته الذات العربية، بينما يشير التغريب إلى اتجاه سلبي يفقد هذه الذات استقلالها في التفكير والتعبير إذا تجاوز الحدود الضرورية لمتطلبات اللغة القومية. وبين التعريب والتغريب تمتد مساحة واسعة من الحوار والتفاعل بين الثقافات، لا تقوم على الانغلاق، ولا على الذوبان، بل على التبادل الواعي الذي يحفظ للهوية العربية أصالتها وكفاءتها، ويكسبها في الوقت ذاته قدرةً على التجدد والتفاعل مع العصر وعلومه.
وفي الأحول كلها، لا يتعارض اللجوء إلى التعريب مع الحفاظ على اللغة والتمسك باللسان العربي كعلامة أولى من علامات هوية الأمة وشخصيتها، ولا مع ضرورة معرفة بعض اللغات العصرية التي توصف في العادة بأنها لغات العلم والتكنلوجيا. وقد يكون استخدام مصطلحات كثيرة معرّبة وجها من وجوه الثقة بالنفس والإيمان بالقدرة على التعامل مع اللغات الأخرى دون خوف من فقدان السيطرة على اللغة القومية.
وقد يكون من نافل القول أن نذكر هنا أيضا أن التعريب لا يقتصر على المصطلحات، بل على النصوص المختلفة، لا سيما في السينما والمسرح. حيث درج المشتغلون العرب بهذه الفنون، في أول عهدهم بها خصوصا، على إخضاعها للبيئة المحلية على صعيد اللغة، والسياق التاريخيّ العام، والشخصيات، ونوع الأفكار المتداولة في الحوار، بحيث تبدو متوافقة مع البيئة والجمهور الذي يراها. وقد أُتيح لي شخصيا أن أعالج عددا من هذه النصوص المسرحية المعربة أو المترجمة بطريقة حرة عن الفرنسية في كتابي عن (المسرح العراقي وتأثير المسرح الأجنبي خلال مائة عام [1880 -1980]، حيث أتيح لبعض رجال الدين المسيحيين العراقيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في الموصل وبغداد أن يعرّبوا بعضا من المسرحيات الفرنسية ذات الطابع الأخلاقي والتربوي ليقدموها في بعض المدارس التابعة لطوائفهم.