حين قررت أن أكون كاتبا، كنت اتوهم بأني سامنح الكتابة فرصة لتجعلني فاعلا، وقادرا على مواجهة تاريخ طويل من النسيان، ومن المؤجل، إذ تكون الكتابة نوعا من الحضور والقوة والسلطة، وهذا ما جعل اختياري للكتابة رهانا على إعادة الاعتبار لنفسي، لأني تركتها تحت سلطة القارىء الذي يحرس المكتبة، ويعاشر نساء الروايات، ويحلم بالثورات والانقلابات الورقية.
تظل العلاقة بين الكاتب والقارىء ملتبسة وغامضة، وربما مفروضة لأنها مسكونة بالأسئلة والهواجس، وبالشهوات التي تجعل من الكتاب بطلا، ومن القارىء متفرجا، مثلما تجعل من المكتبة فضاء يصلح للقتال وللجنس والتخيل وللطقوس، فالكتب هي أرواح واشباح وليست نظاما تابعا الى عمران البيت فقط.
اختياري للكتابة لا يعني اختياري لوظيفة، بل هو اختيار للحرية، ولعادة ترتيب العلاقة مع تلك الاشباح، ومع ما تتركه من تخيلات وأفكار، وربما من أوهامٍ كثيرا ما أصدّقها، واجعها جزءا من لعبتي في صياغة اسئلتي، ومن تصوراتي الشخصية عن العالم الذي تصنعه الكتب..
أنا اعترف بأني ابنٌ مخلص للكتب، فعلاقتي معها منذ أربعين عاما جعلت مني جزءا من طقوسها، ومن مرجعياتها التي تدفعني الى خيارات متعددة، لا اتردد ازاءها، بوصفي جزءا من سلطتها، ومن أحلام مغامريها الذين يصنعون لي زمنا ساحرا، وحكايات اكثر سحرا، وربما أفكارا زرعت فيّ نزوعا للثورة، وعشق الحرية والنضال من اجل الحق والحب والعدل، وحتى الحديث على علاقة الأيديولوجيا بالزيف لم أكن اصدقه بالكامل، فهذه الأيديولوجيا ليست بعيدة عن الكتب، ولا عن سحر اشباحها الذين يشاطرونني طقس القراءة، نتحاور أحيانا، نختلف أو نضحك معا، أو نضجر، ونتبادل الشتائم، فأرمي الكتب، وكأني ارمي مؤلفيها بحجر.
قرأت كثيرا، حتى لم أفكّر يوما بإجراء جردٍ للكتب، وحتى لم اعرف اعدادها الغاطسة في مكتباتي الموزعة في البيت، حيث مكتبة "سطح المنزل" ومكتبة السرير وما تحته، ومكتبة الصالون، ومكتبة المطبخ.. هذه الخارطة المكتباتية تثير الضحك، حتى بتُّ اتوهم أن بعض اشباح الكتب يرفضون الاختباء تحت السرير أو في المطبخ، وأن سحرهم التأليفي وغرورهم يجعلهم يفضلون امكنة متعالية كالصالون مثلا، رغم أن مكتبته صغيرة، وفيها شيء من الاستعراض..
قراري بأن أكون كاتبا بدا وكأنه تمرد على تلك الخارطة، وعلى القارىء القديم الذي يسكنني، أو ربما هو محاولة ساخرة للبحث عن مكان ساحر للكتب التي سأفكر بكتابتها، والتي لن اجعلها تحت السرير حتما، لأنها تخص اشباحي ورغبتي بأن أكون ازاءها بطلا واستعراضيا، وأن اجعل من ذلك القارىء صديقا لي، يشاطرني إعادة ترتيب الأفكار، وتحريرها من الكبت العاطفي والنفسي والجنسي، فالكتابة حرية والقراءة اختناق رغم لذتها العميقة، لذا كنت اكتب بصخب، وبشهوة من يريد أن يتمرد على صمت القارىء..
صحيح أن قراءاتي بدأت مع الرواية والشعر، لكنّ اكتشافي لقراءة الفلسفة والفكر السياسي والنقد الأدبي اصابتني بأعراض خطيرة، أولها القلق، وثانيها المساءلة، وثالثها الشك والارتياب، وهذا ما جعل حساسيتي اكثر هوسا بالبحث عن المختلف، والتمرد عليه، والبحث عن صورة أخرى للبطل الثقافي، البطل الذي يهرب من الرواية الى الفلسفة، ومن القصة الى النظرية الأدبية، ليس لمواجهة المفارقة بين تلك الهروبات، بل لتوهمي بأن الأولى تبدو ناعمة، وتبعث على النعاس، والثانية خشنة وتحرض على الصحو والقلق، فاشباحها يبدون وكأنهم محاربون أو حطابون، وأن فؤوسهم واسلحتهم تجعل من رأسي وكأنه سندان، أو خارطة رمل.
التفكير بالقراءة غير التفكير بالكتابة، فبقدر ما تحمل هذه المغايرة من صدمة، فإن الحاجة الى إعطاء الكتابة المقام العالي، يرتبط بما تمتلكه من سلطة، ومن قدرة على إعادة النظر بمفهوم القارىء الذي سيظل يشبه السجين الذي يتشهى زنزاته، ويتعاش على ما توفره من زاد معرفي تصنعه الاشباح التي تألفه وتتقافز حوله، في الوقت الذي يتحول فيه الكاتب الى متمرد هروبي، والى مشاكس عنيد لتلك الاشباح، رافضا لسلطتها، ولما تملكه من اغواء المكوث في يوتوبيا الكتب..