اخر الاخبار

بين أن نتذكر أو ننسى ثمة زمنٌ يمشي بينهما، وأفكار تنط أو تهرب، أو تتحول بصخبٍ أو ببطء، لكي تجعل التذكر مريبا، والنسيان تورية..

زمننا الشعري هو اكثر "الزمانات" عرضة لهذه الثنائية، ولغرائبية ما تحمله من مفارقات، ومن أوهام، تموت فيها كثيرٌ من الأسماء، وتحيا فيها أسماءٌ أخر، فيتحول وجودها في التذكر الى محاولة  في البقاء القاسي المُعانِد للزمن، أو البقاء الذي تحميه الأيديولوجيا أو التاريخ العائلي والمدرسي، وكلا الأمرين يجعلان من حكاية النصوص، في تذكرها أو نسيانها، مرهونة بما يمارسه آباؤها، أو ما يشاغب فيها أبناؤها، وعلى نحو يجعل من الزمن الثقافي عرضة الى التشظي، والى السهو، أو الى "الزهايمر" حيث تمارس عوامل التعرية وظيفتها في مراقبة خريف الجسد والغابة، وخريف القصيدة، حتى بدا الأمر وكأن هذا المشهد هو الذي نحتاج الى مراجعته، كي لا يصدمنا بثباته المراوغ، وبسلطته "التاريخية" على ذاكرتنا التي تشبه أحيانا مثل "ذاكرة الرمل"

أزمتنا مع الشعر هي ازمتنا مع الوجود واللاوجود، وهي ازمة مثيرة للجدل، على مستوى توصيف الريادة، أو على مستوى التعرّف على المغامرة والتجاوز، حتى لا يكتسب الحديث النقدي حولها طابعا انفعاليا، و"ثوريا، فتعيدنا الأسئلة الى الذاكرة، والى علاقتها بالتاريخ، وبقدرة هذا الشاعر أو ذاك، أو هذه التجربة أو تلك، على حيازة أدوات صناعة وجودٍ متعالٍ، أو "جيلٍ شعري، كالذي اعتدنا أن نسميه، عبر تشكلات شعرية لا يجمعها سوى الزمن، والعدوى الشعرية، والأثر الشعري، والبيان الذي يتحول الى شهادة ماكرة لتثبيت هذا "الجيل"

تلك الأزمة، أو المشكلة والعلة فتحت الباب، وستظل تفتحه على جحيم "ثقافي" لا نكشف من خلاله الّا عن علاقة هذه الأزمة بما يجاورها من أزمات سياسية وايديولوجيا، وأحيانا انقلابات عسكرية جعلت من الثقافي خارج السياق، وهذا ما يجعل إعادة تقييم التاريخ والذاكرة ليس بريئا، لأن سيكون خاضعا الى سلطة تلك العلاقة المريبة، مع السياسي والايديولوجي والانقلابي. اليوم ونحن عند الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، نجد انفسنا إزاء واقع شعري ملتبس، وغامض، تُعيدنا بعض اسئلته الى "القرن الماضي" والى ازمة البحث عن الهوية الشعرية وعلاقة هذه الهوية بالتاريخ والتجديد، بوصفهما ثنائية قلقة، لم تتخلص من عقدة السلطة، ومنها سلطة الشعر ذاته.. ثمة من يشكو هيمنة "قصيدة الشطرين" على الواقع الشعري، وأنها اعادت القصيدة الى نوع من "الرجعية الشعرية" والى ما يشبه النكوص التاريخي، وثما من يشكو رتابة "قصيدة النثر" وغموضها، وضعف بنائها الشعري والتصويري واللغوي، وثمة من يقول: إن "قصيدة التفعيلة" مازالت غنائية ورتيبة، وأن كثيرا منها لم يتخلص من "ذاكرة السياب" والبياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وغيرهم، وأن مفهوم "التجديد" لم يتحول الى مجال تاريخي، ينفي عنه شهوة التذكر، ويضع القصيدة الجديدة في سياق المغامرة والتجريب والتجاوز، وهي قضايا ثقافية في الجوهر، لكنها أيضا قضايا تاريخية مرهونة بفعالية تجديد الزمن الثقافي والنص الثقافي/ الشعري. النجاح في تقعيد مفهوم التجاوز يعني صياغة مفاهيمية للهوية والصورة الشعريتين، إذ إن ترك هذه الصياغة للعموميات سيسلب حق الشعر في الجدة، وفي اكتساب خصوصية وجوده في التاريخ الجديد، فالسياب وظاهرته الشعرية، والستينيون وظاهرتهم الشعرية، وحتى ما تلاهم من "أجيال" علقوا بالذاكرة أكثر من التاريخ، وهذا ما يجعل تحرير الذاكرة رهينا بتحرير الوعي، وبمواجهة أصحاب المعاطف القديمة، ليس بغاية الطرد والعزل، بل بنقدية مواجهة صدمات المستقبل، وبأن الكتابة الجديدة ينبغي أن تكون بمستوى تلقي تلك الصدمات، وبالقدرة على صياغة الأسئلة الجديدة، أسئلة الصوت وليس الصدى، أسئلة الوجود وليس الغياب، أسئلة الغابة وليس الشجرة، لأن ما يجري حولنا من تحولات فارقة يكشف عن اللامألوف في حياتنا، والتضاد الذي يجمع الغرابة بالاغتراب، ويُعرّض الذاكرة الى ما يشبه المحو، بوصفها ذاكرة "متحف العائلة" التي تحفظ المعطف والقميص والمخطوطة، وتكتفي بأن تجعل من "شاعر المتحف" يمارس أحيانا قسوة الأبوة أو فتنتها.. التمرد على الذاكرة قد يكون خيارا، والدعوة الى ما يشبه النسيان النبيل، لكي تدرك القصيدة الجديدة حريتها، ويدرك الشاعر أهمية أن يتحمل مسؤولية هذه الحرية، وأن يمارس وعيه بنوع من التعالي، والتصريح بأن الكتابة الجديدة قرين بفاعلية تأهيلها لتكون وجودا يصلح للمستقبل.