اخر الاخبار

لا شيءَ يصنع التجاوز سوى الوعي بهذا التجاوز، وبطبيعة الأسئلة التي يُثيرها، والأفق الذي سيفتحه، وعلى النحو الذي يجعل منه مفهوما للتعرّف على المخفي من الصراعات والتحولات والرهانات التي تعنى بصياغة هوية الخطاب الثقافي، وبأسئلة ما يستدعيه من وعي نقدي..

المجال الثقافي العراقي حافل بمتغيرات كبيرة، وبصراعات ظل يشتبك فيها الثقافي والتاريخي بالأيدولوجي، عبر رؤى تعددت، مع اتساع الحاجة الى حساسية الى التجاوز، والى وعي ضرورة المغايرة، وبالاتجاه الذي وضع ذلك الثقافي في سياق اشكالي، وفي سياق مفارقات وتناقضات ليست بعيدة عن التاريخ العراقي، بوصفه تاريخ تحولات كبرى، اخفت كثيرا من ازماتها تحت ما صنعته من سرديات، ومن اقنعة، ومن اشتباكات معرفية وايديولوجية بدت واضحة في الواقع الثقافي، وفي علاقة الثقافة بالسلطة والنظام الاجتماعي.

جماعة الخمسينات لم تكن بعيدة عن هذا التحول، وربما كانت تعيش ازمته الوجودية وقلقه العميق، وشغفه بالتمرد على " تأطيرات" جعل منها التاريخ رهينة بعلاماته ومهيمناته المركزية، فكان البحث عن التجاوز وكأنه بحث عن الغائب، وعن الأنموذج الذي يعي خطورة خطاب المغايرة، فيستدعي له أسئلة تملك مجسات التعرّف على المخفي في الجسد الشعري والقصصي والروائي، وحتى التشكيلي، فكانت أحلام المغامرين تتوق الى اثارة مزيد من تلك الأسئلة، والى تغذية مفهوم التجاوز بقوة المعرفة وبحساسية التجاوز ذاته.

المكان/ المقهى، والحانة/ اللذة، والكتابة/ الجريدة، والاحتجاج/ الشارع ثنائيات تبحث عن اوديسات تدرك سرائر تلك المغامرة، على مستوى علاقتها بمواجهة اسطورة البطل السياسي المهزوم على طريقة ادويسوس، أو على مستوى تحويل مفهوم الانتظار الى قوى استعادية تتمثلها صناعة الحلم، حيث تتحول خيوط بينلوب الى اغواء، والى تحفيز على استعادة فكرة البطولة الغائبة.

الزمن/ السلطة، والحلم/ التمرد، والرؤيا/ استجلاء الغائب، الاستعارة/ الوضوح ثنائيات لا تقل شغفا عن الأولى، ولا عمّا تدعو اليه من الأسئلة، حيث يتحول التجاوز الى مغامرة تُحرّض على استدعاء فرضية الكتابة الجديدة.

هذه الكتابة تحولت الى ميدان صاخب، والى رؤى مُحرِّضة، والى ارهاصات للتمرد على واقع رمادي، وعلى نحو بدا فيه المكان وكأنه بيت للأشباح، مثلما تحول الزمن الى "سيولة" لم تنفع معها كل قيود الأيديولوجيا، ومراثي الواقع العراقي، فكانت البيانات الفنية التشكلية أول علامات التمرد، والبحث عن توصيف آخر للصخب الثقافي، مثلما تحول المقهى، وتحولت الحانة الى امكنة ماكرة، للحوار حول هوية المغامرة، والخروج عن عتمة ذلك البيت، واللجوء الى رصيف أو شارع لم يعودا آمنين.

ما كتبه بدر شاكر السياب وهو يبحث عن تجاوزه الشخصي، جعل من البياتي يدرك خطورة البقاء قلقا عند حافة القصيدة، وعلى نحو بدا التجاوز مثيرا ومحرضا، ومهووسا بصناعة الأحلام التي لا تقل صخبا عن أحلام الثورة، وبما يجعل مفهوم ذلك التجاوز قرينا بفكرة الثورة وبأسئلتها المواربة، الثورة هنا، لا تعني تمثيل الهاجس الانقلابي العسكري والسياسي، بل تمثيل الوعي المتعالي بفكرة تلك المغايرة، وبما تحمله من سؤال نقدي جديد، لكن ما جرى من تشابكات ومفارقات، افقد حساسية التجاوز بعض شغفه، فتصدعت " بنية الشعري" إزاء مركزية الأيديولوجي، مثلما بدأ الشوفيني يتسلل الى الواقع والى المنبر، فكان انقلاب شباط الأسود علامة فاجعة ل"الموت" الانطولوجي الذي صنعته القوى الرجعية، وهي تمارس رعبها في القتل الوطني، والقمع الأيديولوجي، والقهر الثقافي، وفي صياغة هوية الواقع الثقافي وعمل مؤسساته.

ما بدا أكثر اثارة في إعادة صياغة سؤال التجاوز بدا أكثر وضوحا في الستينيات، إذ تحوّل الانكسار "الوطني" الى تعالٍ شعري، والى مواجهة عميقة مع التاريخ والواقع، حيث الاشتباك اللغوي، الذي انفتح على اشتباك وجودي مفتوحا على رؤى جديدة، وبحساسيات "صاخبة" إزاء الأنموذج الشعري الجديد، فبدت تجارب سعدي يوسف ويوسف الصائغ وفاضل العزاوي وصادق الصائغ وغيرهم علامات فارقة للتجريب الشعري، ولتجديد ادواته ورؤاه واسرار ما يحفل به البيت الشعري الذي هواجس يعرف خفاياها أولئك الشعراء الذين وضعوا التجاوز رهانا على العبور الى عوالم الكتابة الجديدة..