اخر الاخبار

تُشكّل الحرية أرقى القيم الإنسانية المدهشة، وهي تولد مع الإنسان عندما يكافح وهو مازال جنينا في سبيل الخلاص من رحم أمه . إنّها حاجة فطرية تلازم الفرد من صرخة ولادته حتى الموت، وشعوب الكون منذ فجر السّلالات التأريخية، ورسم خطوط الحضارات المتقدمة، وهي تعمل على نيل الحرية، والخلاص من القيود القاهرة المفروضة عليها، وهذه القيود قد تتخذ شكل الشرائع الدينية، أو الأعراف والتقاليد الرجعية، أو القوانين الي تُسنّ لخدمة النظام الحاكم من دون الشعب، ويمكن أن يتحوّل هذا التوجه في حال قمعها بصورة غير قانونية وفرض القيود المجحفة، وممارسة صور القهر في مصادرتها إلى حالة من التمرد المشوّه تعبيراً عن هذه الفطرة وسعيا إلى مقاومة هذا القمع وتلك القيود، والتحرر منها، فالرغبات بالحرية، وطلب الأمان، وامتلاك الحق بسهولة التحرك والاجتماع، ونقل ما تجيش به الصدور من آراء هي رغبات فطرية لدى الإنسان، تتماهى مع دواخله، وعمق تكوينه، وحتى جيناته الوراثية التي تعبر عن عدم رضاها بالهيمنة، والإصرار على امتلاك زمام القرار تحقيقا للوجود الإنساني، وربّما يصبح التعبير المتمرّد عن النفس شكلا من أشكال المقاومة، ورد فعل طبيعي على القمع المسلّط عليها عندما تعيش في ظلّ معتقدات وأفكار جمعية تقيّد حرية الإنسان، ونزوعه نحو تحقيق الذات، والطموحات الشخصية.

أنّ مفهوم الحرية يتخذ تعريفات، أو أشكال متباينة تبعا لاختلاف البيئات الاجتماعية وطبيعتها التكوينية والمناطقية ولهذا يتباين مفهومها من دولة إلى أخرى ومن ثقافة إنسانية إلى أخرى، ولكنّ المشترك الأكبر بينها في العصر الحديث يجنح إلى عدّ الحرية هي التي تتعلّق بحرية التنظيم السياسي، وحرية إبداء الرأي السياسي والثقافي والتعبير عنه بالتظاهرات، وتشكيل النقابات والجمعيات .. وهناك جانب مهم جدا من الحريات ألا وهو حقّ الحريات الفردية الشخصية مثل حرية الاعتقاد والانتماء والارتباط مع الاخر. وليس من أبجديات الحرية ومفاهيمها ما يستدعي أن توسَم بـ(الانفلات)، و(الانحراف الخلقي)، و(إشاعة الرذيلة). وهذا ماتسوّقه بعض الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة، أو السلطات الدينية المتشدّدة، بل الحرية ألصق بمعاني الخلاص من القيود المانعة لإبداع الإنسان المعرفي والإنتاجي بمختلف النواحي، وهي ألصق بمعنى التخلّص من العبودية القاهرة لجماعة رجعية معينة، أو لشخص موتور ورفض الإجبار وفرض القناعات على الآخر فرضا تعسّفيا . وطالما جابهت هذه الحريات صوراً من التعنيف والتجاوزات، والقمع لأنها لاتستقيم مع توجّهات النظام الحاكم، أو الضابط الديني والقبلي المعلن والمستور. لذلك يتم فرض قيود قاهرة قد تتطور إلى انتهاك الحرمات، والاعتداء الجسدي العنيف لاسيّما إذا كانت مطالب الحرية تجنح إلى انتقاد الفساد المالي، والتراجع الاقتصادي والخدمي، والنهب المنظّم لثروات الشعب، والاحتجاج على صور الاستبداد، وكتم الأفواه التي تفضح صور الفساد السائد في جسد مؤسسات الدولة مما قد يدفع إلى تفجّر الأوضاع الداخلية للبلد، وتهديد السّلم الأهلي مثلما حصل سابقا في عدد من الدول العربية والأجنبية. ولو أتينا إلى شعوب منطقتنا العربية لوجدناها قد خزّنت براميل من البارود المتفجّر في اللاوعي الجمعي نتيجة صور القمع والكبت، ومصادرة الحريات السياسية والاجتماعية، وفرض أفكار ورؤى مشوّهة لاتستقيم مع العصر الحديث المتطوّر للإنسانية، وسرعان ما انفجرت هذه البراميل بعد أن ضاقت الشعوب ذرعا بالتضييق على الحريات، وتكميم الأفواه، وسوء الأحوال المعيشية، واستئثار الطبقة الحاكمة بالمقدرات الاقتصادية، واحتكار الحلقة المحيطة برأس النظام للقرار الاقتصادي والسياسي، وتغلغل الفساد في المؤسّسات العامة، وعدم محاسبة الفاسدين والتخبّط في إدارة دولهم، لتتجه هذه القوى الوطنية نحو الاحتجاجات الشعبية الضاربة التي خرجت في عدد من الدول العربية، مطالبة بتغيير النظام، وتحقيق مطالب الإصلاح الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية.

أن الحريات تلعب دوراً خطيرا في بناء الدولة والمجتمع، فهي ليست منتوجا مترفاً إنّما يمكن لتوظيف الحريات المسؤولة عبر تمكين الفرد من أدواته المعرفية، وتعزيز الاستقلالية الشخصية، وعبر تشجيع الابتكار والاسهام في النمو الاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وترسيخ مبدأ الحكم الرشيد، وهذا كلّه يؤدّي إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار والسلام في ربوع البلد، فأنت عندما تُمكّن الأفراد من ممارسة الحرية المسؤولة في التعبير عن الآراء والأفكار التي تحمل مضامين بنائية وإصلاحية، فإنك ستضيف لبنات مهمة في صرح المجتمع والدولة، مما يؤدي إلى خلق مجتمع متنوع وشامل يتقبّل الاختلافات، ويسهم في التعايش السلمي والازدهار المجتمعي.  ان الحريّات التي تعمل على مراقبة أداء الحكومة، ومساءلة وزرائها ومسؤوليها؛ تساهم في تقويم ما اعوجّ من هذا الأداء وتصحيح المسارات الخاطئة، مما يحدّ من الفساد، ويساهم في بناء مؤسسات ديمقراطية قوية. فضلا عن ذلك تؤدّي الحريّات دورا بالغ الأهمية في تحقيق الاستقرار السياسي، والمساهمة في التنمية البشرية ورفاهية المواطنين، عن طريق توفير بيئة مناسبة للعمل واختيار الشخصيات القيادية الكفء، والنزيهة لإدارة عمل المؤسسات، وعن طريق هذه البيئة النظيفة والحرة يمكن أن يتعزّز الابتكار والإبداع في صيغ العمل الجماعي والفردي، من ثمّ تحقيق التنمية البشرية والتمكين من تحقيق الذات الخاصة، والطموحات المشروعة المرتبطة بها.