أذكّرُ قومي ظلمهم لي وبغيهم وقلَّةَ إنصافي على القربِ والبعدِ
الحرية (liberte) بمعناها العام (( غيابُ الإكراه الخارجي )) [لالاند :727]. تسقط ظلال هذا المعنى على أحياز متباينة: اجتماعية، وسياسية، وأخلاقية، وتمثل الحرية الاجتماعية الشكل التقليدي للحرية، فالحرُّ هو المحكوم بإرادته لا بإرادة غيره، وهو ضدُّ العبد، والسجين، والأسير. إنَّ السعيَ وراء الحرية والفكاك من طوق العبودية والرِّق غاية حاول بلوغها الإنسان منفردًا أو مذابًا في جماعات، فهل بلغ الإنسان الحرية ؟ أحُكمَ بإرادته أم مازال محكومًا بإرادة غيره ؟ وكيف لذات تشكلت مفاهيمها في ظل الآخر المتغلغل فيها (المُستعبِد) أن تفكِّر؟ هل ستفكر الذات ضد بعض الذات لأجل الذات؟
يفترض هذا المقال أنَّ الحرية وهم استولى على بني الإنسان بعامة، سواء كان حرًا - بالتصنيف الاجتماعي- أم عبدًا لغيره، فالمرء محكوم بإرادة الأغيار أيًّا كان تصنيفه المجتمعي، ومجمل محاولات التحرر والنضال الفردي الناجح ضد العبودية أفضت بصاحبها إلى الدخول في طور عبودية جديد. إذ لا يعرف العبدُ معنى للحرية إلا ما يراه من ممارسات السادة لها، وعليه حين يُعتق العبد سيحاكي انموذج الحرِّ الذي يعرف، بل الذي لا يعرف سواه، ولا يطول به العهد حتى يدرك الفخَّ الذي أمسك بخناقه، فسيضطر إلى احترام النواميس التي أذلته دهرًا، هذا إلى جانب أنَّ مثاله المحتذى مخترق الذات بقوانين مجتمعية تثقل كاهله وتستعبده من حيث يدري ولا يدري، بل يرى هيجل أنَّ ذات السيد مخترقة بعبده، إذ لا يصل السَّيد إلى رغباته واحتياجاته إلا عبر عبيده فكأنَّه ((قام بإقحام عنصر غريب عنه بين رغبته الذاتية والشيء، فلم تعد له علاقة بالشيء إلا عبر (واسطة) العبد، ولم تعد موضوعات رغبته مستقلة ذاتيًا، بل أصبح عمل العبد هو الذي يشكلها و يصنعها نيابة عنه، فيتحول بذلك إلى وعي ذاتي آخر )). [جدلية العبد والسيد عند هيجل: 233] . ولا يكاد الحرُّ الجديد يلتمس سبيلًا للنجاة من مصيدة الحرية بعد انهيار انموذجه إلا وكان على حساب أناه الجريح. فإمَّا انشطار للذات وتشظٍ لها، أو ذوبانها في الآخر.
ولاختبار سلامة هذا الافتراض سأقف عند تجربة عنترة بن شداد لبلوغ الحرية، فهي التجربة الأشهر في التراث العربي القديم .
تبدأ حكاية عنترة – في تاريخ الأدب الرسمي- بالمشهد المفصلي في سيرة صاحبها، إذ أغار بعض العرب على قومٍ من بني عبس فأصابوا منهم مغانم، فتبعهم فرسان بني عبس وعنترة فيهم للخدمة، فنازلوهم واشتد القتال بينهم، فما كان من شدَّاد بن معاوية العبسي – والد عنترة – إلا أن يقول له: كر يا عنترة، فقال إذ ذاك عنترة قولته الشهيرة: (( العبدُ لا يُحسِنُ الكَّر، إنَّما يُحسِنُ الحِلابَ والصَّر ))، لا أحسبه كان يفاوض أباه لقاء حريته بقدر ما كان يعربُ عن غيظ كُظم طويلًا، لكنَّ القَدَر ابتسم أخيرًا، انكسر طوق العبودية بقول أبيه: (كر وأنت حرّ)...
مذ تلك اللحظة اندفع عنترة يحاكي صورة الفارس الحر محترمًا نواميس الأحرار والسادة، فانطلق في سوح الوغى، وكانت حرب داحس والغبراء ميدانه الرحيب، فلم يكل له ساعدٌ، ولم يُغمد له سيف، وأخلص لبني قومه فكان فارس عبس وبطلها الاسطوري، لكنَّه لم ينجُ من الغمز أو التندر، أو من نظرة دونية من طرفٍ خفي. فكان السؤال الذي مزَّق أناه: أيثور ضدَّ هذه الأعراف التي حررته بعد استعباده، وجعلته سيّدًا من سادة قومه أم يعرضُ عمَّا في عرفهم من ازدراء للونه وكل ما يتصل به، ويظل أداة قومه لطحن أعدائهم ؟ هنا تحديدًا تتهشم الذات التي جاهد لتحريرها، ويشفُّ شعره عن بعض نثارها:
أذكرُ قومي ظلمهم لي وبغيهم
وقلَّةَ إنصافي على القربِ والبعدِ
بَنَيْتُ لهمْ بالسَّيفِ مجْداً مُشيّداً
فلمَّا تناهى مجدهمْ هدموا مجدي
يعيبونَ لوني بالسواد وإنَّما
فعالهم بالخبثِ أسودُ من جلدي
ومثله أيضًا:
خدمتُ أناسًا واتخذتُ أقاربا
لِعَونيَ ولكن أصبحوا كالعقاربِ
ينادونَني في السِّلمِ يا ابن زبيبةِ
وعندَ صدامِ الخيلِ يا ابن الأطايبِ
ولولا الهوى ما ذُلَّ مثلي لِمثلِهم
ولا خَضَعَت أُسدُ الفَلا لِلثَعالبِ
أيُّ هوى ؟ أتراه هوى عبلة حقًا أم هوى السيادة ؟!
ثم يعاود ترميم ذاته معزِّيًا إيَّها بفروسيته الفريدة، وقبوله لعنصره ولونه تارة ، فيقول:
ما ساءني لوني واسم زبيبةَ
إذا قَصُرت عن همتي أعدائي
وبمحاولته تهشيم انموذج الحرِّ بفرادته هذه تارة أخرى، فيصف نزالًا بينه وبين أحد الشجعان، بطلٌّ من الأحرار لكنَّ انتماءه لمعشر السادة لم ينجهِ من قبضة عنترة، ورمح العبد الذي تفوَّق على السادة، التي وثَّقها بقوله :
جادَت لَهُ كَفّي بِعاجِلِ طَعنَةٍ بِمُثَقَّفٍ صَدقِ الكُعوبِ مُقَوَّمِ
فَشَكَكتُ بِالرُمحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ
لَيسَ الكَريمُ عَلى القَنا بِمُحَرَّمِ
مع ملازمة عقدة سواد اللون ودمامة الشكل له، فلا يملك كبت غيظه من وسامة خصمه متشفيًا بسحقها قائلًا : فَتَرَكتُهُ جَزَرَ السِباعِ يَنُشنَهُ يَقضِمنَ حُسنَ بِنانِهِ وَالمِعصَمِ
هكذا يظل عنترة متأرجحًا بين التمرد على أعراف السادة فيؤكد بُعده عن مجتمعهم الذي اجتهد لبلوغه، والتماهي معه وقبول قوانينه التي أعلت من شأنه فوق العبيد فصار في مرتبة أعلى من سائر العبيد لكنَّها – بلا شكٍّ - أدنى من السادة، تموضع مزَّق الذات، وأدخلها في نمط عبودية جديد، إنَّها العبودية الطوعية - على حدِّ تعبير دو لابويسيه - التي تقدمُ انموذج الحُرِّ المروَّض.