تشهد السينما العراقية في السنتين الأخيرتين طفرة نوعية ملحوظة على صعيد الإنتاج وتعدد التوجهات والتجريب، ويُلاحظ بالدرجة الأساس بروز السينمائيين الشباب وتصدرهم الواجهة، بالإضافة إلى حضورهم الملحوظ في المهرجانات السينمائية العربية والدولية.
لطالما كانت السينما، كفن خالص وصناعة ونوع إبداعي خلاق، أداة محورية مهمة في طرح قضايا الشعوب، وتعضيد النضال الوطني، وتقديم الوجه الناصع للبلدان، وبالنظر لكونها كذلك، واجه السينمائيون في العقود الماضية مصاعب جمة، تمثلت في ضيق هامش الحريَّة المتاح لهم للعمل واختيار موضوعاتهم، ونقص التمويل والاهمال الذي كانت تبديه الأنظمة السابقة للسينما على وجه الخصوص والثقافة بشكل عام.
إن الحضور الحالي والتألق الذي تشهده السينما العراقية، يعود بالدرجة الأساس إلى فسحة الحريَّة النسبية التي بات يتمتع بها السينمائيون، لاسيّما فئة الشباب منهم، لقدرتهم على المواجهة والإقدام والجرأة على التجريب، بالإضافة إلى الدعم المالي والتمويل الذي تخصصه الجهات الداعمة للسينما ـ أغلبها خارجية ـ بينما ظل دعم الجهات الرسمية المسؤولة عن دعم السينما في العراق، شبه منعدم وعشوائي وغير مهني في الكثير من الأحيان.
إنّ انعدام الأسس العلمية والخطط طويلة المدى المستندة إلى تشريعات رصينة، كفيلة بترسيخ وازدهار العطاء الفني والثقافي في البلاد، يؤكد مطالبتنا المتكررة من هذا المنبر، بضرورة تأسيس صناديق دعم السينما والفنون الأخرى وإصدارات الكتب والمعارض التشكيلية، واليوم بتنا نرى التأثير الكبير والمهم، والنتائج الإيجابية للسينما العراقية عندما تحظى ببعض الدعم الخارجي، وتخصيص تمويل لها، وإن كان منقوصًا، ولا يلبي الطموح، لكنّه على شحته، كان سببًا رئيسًا فيما نراه من ازدهار وحضور وانتشار وتعدد الأفلام العراقية التي باتت تُنتج في السنتين الأخيريتين، فتخيل لو أن صناعة السينما العراقية حظت بدعم رسمي يستند إلى أسس علمية ومهنية مدروسة، كيف ستكون النتائج. على مدى العقود الماضية، لم يكن الخلل في المبدع العراقي وقدرته على اجتراح طروحاته ومشاريعه الإبداعية، كون تأسيسه يستند إلى خزين معرفي هائل، يُستمد من التكوين التاريخي العميق للبلاد، لكن تلك الطاقات كانت تواجه، تارة بالقمع والتضييق ومصادرة الحريَّات، وأخرى بالإهمال والمحاربة وتفكيك البنية التحتية اللازمة للإنتاج وتبديد أدواته، كما هو حاصل في إهمال دور العرض السينمائي في عموم البلاد.
إنّنا في الوقت الذي نؤشر الخلل، ونطالب بترسيخ ألية دعم السينما وتأصيلها، وعزلها عن تأثير المؤسسات الحكومية، لابد أن نشيد بجهود السينمائيين العراقيين الذين استطاعوا تحدي المستحيل، ونقص التمويل، وعدم توفر البنية التحتية اللازمة، وقدموا أفلامًا عراقية خالصة تبعث على الفخر، إذ لم تكتف تلك التجارب السينمائية الرائعة بتقديم منجز إبداعي كبير على صعيد السيناريو والتمثيل والإخراج والمونتاج، بل تجاوزته إلى قدرة وشجاعة منقطعة النظير في التصدي لقضايا شائكة وعميقة، في سبر أغوار المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عانى منها العراق على مرّ السنوات الماضية، ناهيك عن تقديم الوجه الحقيقي لنضالات أبناء شعبنا في مقارعتهم الظلم والاحتلال والفساد والتخلف.
إنّ أفلامًا مثل: “الصورة التي لا تُرى”، و”ولادة”، و"ضيف”، وحدث ذات مرة في بغداد”، وأسرار النهر القديم”، وأمير نفسه”، وفاعل خير،” ** و فيلم الرسوم المتحركة "سكتش"، و”جريرة” ، و”ابن آشور" و”ندم” ، و“نابو"، بالإضافة إلى الفلمين الكبيرين “كعكة الرئيس”، و"أركالا.. حلم جلجامش” اللذين حققا حضورًا رائعًا في الأوساط العالمية، الأمر الذي يعد بمستقبل واعد للسينما العراقية على أيدي المخرجين الشباب، بعيدًا عن التابوهات والإملاءات.
افتتاحية "الطريق الثقافي"
العدد 170