اخر الاخبار

يمثل الوضع العراقي الراهن أحد أبرز الأمثلة المعاصرة على التوتر بين الدولة الحديثة من جهة، وإرث البنى التقليدية والعشائرية والسلطوية من جهة أخرى. فالعراق، منذ سقوط النظام الشمولي عام 2003، يعيش حالة جدلية من إعادة التأسيس لمؤسسات الدولة؛ مقابل صعود قوى ما دون الدولة (العشائر، الميليشيات، المرجعيات الدينية، ومراكز النفوذ الخارجي). وتتيح لنا مدرسة فرانكفورت النقدية، بما تطرحه من أدوات تحليل للسلطة والإيديولوجيا والعقلانية المشوهة، إطارًا مناسبًا للتفكيك.

تأسست مدرسة فرانكفورت في ثلاثينيات القرن العشرين، لتقدم ما عُرف بالنظرية النقدية، التي سعت إلى تجاوز النزعة الوضعية، وإبراز البعد التاريخي والإيديولوجي للمعرفة. وقد ركز مفكروها (هوركهايمر، أدورنو، ماركوز، هابرماس) على تحليل كيف تُنتج المجتمعات الحديثة أنماطًا جديدة من السيطرة، عبر الثقافة الجماهيرية، والعقلانية الأداتية، وصناعة الوعي الزائف. في حالتنا العراقية، يمكن استثمار أدوات هذه المدرسة لقراءة ثلاثة مستويات أساسية: حيث الإيديولوجيا كآلية هيمنة: الخطاب السياسي الذي يعكس وعودًا بالإصلاح، لكنها تُستهلك كرموز للتبرير أكثر من كونها برامج للتحقق. والعقلانية الأداتية: إدارة الدولة تتحول إلى حسابات محاصصة وضغط خارجي، بعيدًا عن العقلانية التحررية. والثقافة كإعادة إنتاج للهيمنة: الإعلام النفعي والشعارات الوهمية تُستخدم لإخفاء الصراعات البنيوية، وتصدير خطاب الاستقرار الوهمي. العراق اليوم يعيش حالة يمكن وصفها بجدلية "الدولة/اللادولة". فمن جهة، هناك مؤسسات رسمية: مجلس النواب، حكومة، وزارات، أجهزة أمنية. ومن جهة أخرى، هناك سلطات موازية.. هذه الثنائية تخلق ما يسميه هابرماس "تشوه المجال العام"، حيث لا يمر النقاش عبر العقل العمومي، بل عبر قنوات ضغط غير مؤسساتية. في هذا السياق، تبدو حكومة السوداني محاولة لإعادة ترميم النظام السياسي، لكنها تصطدم بطبيعة البنية نفسها. حيث يضطر الاعلامي احياناً للتماهي مع خطاب الدولة، لكنه عمليًا رهينة منظومة اللادولة. هذه المفارقة تمثل "المضحك المبكي": ضحك حين يُرفع شعار الإصلاح، وبكاء حين يتبين أنه مجرد إعادة إنتاج للفساد.  ان القراءة النقدية تكشف عن: التبعية لمنظومة معينة الى جانب الوعود بمكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية لتظل عالقة على مستوى الشعارات في وقت نجد فيه الأدوات الفعلية غير متاحة، لأن شبكات الفساد جزء من البنية الحاكمة. وإعادة إنتاج الهيمنة، مما يؤدي الى خلق "وعي زائف" لدى الجمهور، يُخفي حقيقة التبعية البنيوية للقوى الخارجية والداخلية. هنا يمكن استدعاء مفهوم ماركوز حول "الإنسان ذو البعد الواحد": المواطن العراقي يُساق للاقتناع بأن بقاء الوضع على ما هو عليه هو الخيار الممكن الوحيد، بينما تُغلق أمامه احتمالات التغيير الحقيقي! السياسيون أسرى لعبة محاصصة لا تترك مجالًا للإصلاح الحقيقي، وهو ما نراه في رؤى هوركهايمر وأدورنو عندما يتحدثان عن "تشيؤ السياسة"، حيث تتحول القرارات إلى مجرد أدوات لتمديد السلطة لا لإنتاج التغيير، مع بقاء الخطاب المأزوم، الذي يصف الواقع بحدة، لكنه لا يقدّم بدائل عملية، بل يستسلم أحيانًا للحنين إلى "الزعيم القوي" أو الإصلاح الأخلاقي. بهذا المعنى، يصبح النقد "مضحكًا مبكيًا": مبكياً لأنه صادق في تشخيص الخراب، ومضحك لأنه يظل حبيس دائرة الخطاب، عاجزًا عن تقديم مشروع تحرري بديل. من منظور فرانكفورت، العراق يمثل نموذجًا لكيفية عمل الهيمنة في المجتمعات ما بعد الكولونيالية: حيث العقلانية الأداتية في الحكم: الدولة العراقية لا تسعى لبناء مواطنة، بل لحسابات توازن القوى، وتوزيع الريع النفطي كوسيلة لشراء الولاءات. وجعل الثقافة الجماهيرية أداة تخدير: القنوات الإعلامية والخطابات الجاهزة التي تلعب دورًا مشابهًا لما وصفه أدورنو بالصناعة الثقافية، حيث يُعاد إنتاج القبول بالهيمنة. وأحوال الاستلاب السياسي: المواطن العراقي يشعر بالعجز، يضحك ساخرًا من السلطة، لكنه في الوقت نفسه يستبطن استحالة التغيير. هذا الاستلاب هو جوهر "المضحك المبكي".