إذا كانت حرّيّةُ التعبير ، بلفظها هذا ، شيئًا مستحدثًا جاء به الفكرُ الحديثُ ؛ فإنّها بمعناها ، قديمةٌ قِدَمَ وعي الإنسانِ نفسَه ، وما يُحيطُ به ؛ ذلك أنّ الإنسانَ ، بما جُبلَ عليه ، كائنٌ حُرٌّ معبّر . والحرّيّة في أخصّ دلالاتها : غيابُ القيدِ ، والمقدرةُ على الفكرِ والعملِ ، أمّا التعبيرُ فمن دلالته : التفسيرُ وانكشافُ ما في الضمير ، والإبانةُ عمّا يختلج في النفس . ولا تتحقّق الحرّيّةُ إلّا بالتعبير ، ولا يقع التعبيرُ إلّا بجوٍّ من الحرّيّة مطمئنٍ ؛ وكأنّ اللفظين ، الحرّيّةَ والتعبيرَ ، ينطويان على المغزى نفسه ، ويلتقيان عند الإنسان الحرّ ، الرّشيد ، المعبّرِ عن نفسه باللسانِ الفصيح ، واليد الصانع .
ولا يستقيم أمرُ الإنسان من دون الإفصاح عن نفسه ؛ فإذا مُنِع بنحوٍ ما ، ولم يُفصح عمّا لديه ؛ التوتْ نفسُه ، وخارت قواه ، وصار له ظاهرٌ يجاري به السائدَ المَرْضيّ ، وباطنٌ خفيّ مكتوم ؛ واختلَّ ما بين سريرته وعلانيّته . وكذلك المجتمعُ يضعُف وتتراخى قواه إذا حِيل بينه وبين الإفصاحِ والإبانة عمّا يرى . إنّ في التعبير المبين أُسًّا من أسسِ سلامة النفس ، واستقامةِ المجتمع ؛ وإنّ في غيابه ما يجعل الفردَ والمجتمعَ في مهبّ الحوادث المزعزعة . ولا ريب في أنّ الفكرّ الحرّ ، والتعبيرَ الصريح أسٌّ متين في بنيان الحكم الرشيد ، والإدارة الصحيحة .
وللتعبير أشكال وقنوات ، وكلٌّ يتّخذ منها ما يقِدرُ عليه ، وما يلائمه ؛ وأوّل أشكاله القولُ يُعرب به المتكلّم بما يطابقُ ما في ذهنه ، وقلبه ، من غير أن يزيد أو ينقص ، وهو قدْرٌ متاحٌ للبشر كلّهم ، وشرطُ استقامته الصدقُ والوضوحُ . وتأتي بعده أشكال أخرى كالشعر ، والنثر ، والفلسفة ، وغيرها من صنوف البيان المعبّر عن الذهنِ والقلب ، ممّا يستعمل اللغةَ وسيلة في الإبانة ؛ وشرطُها الذي لا تستقيم على ما سواه ؛ الصدق والوضوح . ومن الأشكال المعبّرة ، الرسم والنحت والتمثيل وغيرها. وكلّها إذا تمّت على شرطها ، ترتقي بالفرد والمجتمع ، وإذا قُمعت تضاءل الإنسان ومجتمعه !
وقنوات التعبير كثيرةُ الأصنافِ ، مختلفةُ الأدوات ؛ منها المنبرُ والكتابُ والصحيفةُ والوسائلُ الإليكترونيّة المستحدثة ؛ وكلّها ، إن لم تكن بجوّ من الحرّيّة ، تختلّ ، وتضطرب ، وينقلب نفعُها إلى أذى . إنّ بين نظامِ الحكم وحرّيّةِ التعبير لأوثقَ الوشائج ؛ ذلك أنّ التعبير إذا كان حرًّا ، لا يُقيّد إلّا بقيود العقل والمنطق ، قوّم نظامَ الحكم وأصلح أخطاءه وارتقى به ؛ أمّا إذا حجرت السلطة على الفكر الحرِّ الرشيدِ فإنّها تُضِرّ بكيان المجتمع والفرد ؛ فيشيع الضعفُ ، والخذلانُ ، والانكماشُ ، ويسود النفاق ؛ ثمّ يرجع الضررُ ، من بعد وعلى السلطة نفسها فيطوّحها ويجعلها أشتاتًا .
وجدير بذوي اللسانِ والقلم أن يحرِصوا على إشاعة حرّيّة الفكر والتعبير ، ومدافعةِ أعدائها ، وألّا يقبلوا إدهانًا فيها ...