في العراق، لا تُقاس حرية التعبير بعدد المؤتمرات التي تُعقد باسم "الديمقراطية"، ولا بعدد القوانين التي تُعلق على الجدران أو تُحفظ في أدراج الوزارات، بل تُقاس بعدد الأقلام التي كُسرت، والأصوات التي أُخرست، والكلمات التي ماتت قبل أن تُولد.
نعيش في بلد يتحدث كثيرًا عن "حرية الرأي"، حتى ليكاد يصدّق نفسه. يلوك السياسيون المصطلح كما تُلوك الشعارات في الحملات الانتخابية، ويرفعون راية "التعبير" في كل محفل، لكنهم يتصببون قلقًا من تعليق ساخر على فيسبوك، أو تغريدة تحمل شبهة وعي.
هنا، يبدو أن الكلمة الحرة صارت خطرًا وجوديًا، تُواجه بالرصاص المطاطي حينًا، وبـ “البلاغات القضائية" أحيانًا، وبحملات التهديد دائمًا. من أراد أن ينتقد، فليجهز حقيبة الترحال. ومن أصر على أن يسأل، فعليه أن يتقن لغة الصمت... أو فن الاعتذار العلني.
إنها حرية، نعم، ولكن على الطريقة العراقية: حرية بمواعيد مسبقة، وبمقاسات تُفصّل على هوى المسؤول، ومزاج الأحزاب، وخرائط الولاء. حرية تتنفس فقط في الأماكن الخالية من الكاميرات، وتُختنق إذا اقتربت من دهاليز السلطة أو ملفات الفساد.
في وطنٍ يُفترض أن "الكلمة" فيه سيدة الموقف، أصبحت "الكلمة" نفسها ضيفة ثقيلة، يُمنع دخولها إلا بتأشيرة أمنية، وقد تُرحَّل فورًا إذا أبدت رأيًا لا يروق لـ “أصحاب المقامات الرسمية". وهكذا، تتحول حرية التعبير إلى رفاهية لا يقدر عليها سوى من يجيد فن الصمت، أو التطبيل، أو كتابة الشعر العمودي في مديح "المنجزات الوهمية".
أما الصحفي، فله وضع خاص جدًا: إن كتب الحقيقة، فهو مشاغب؛ وإن سكت، فهو "وطني معتدل"!
وإن حاول أن ينقل صورةً واقعية من شارع مكتظ بالفقر أو من ساحة ملتهبة بالغضب، فسرعان ما يُتهم بأنه "يحرّض على الفوضى" أو "يهدد الأمن القومي"، وكأن الأمن في العراق كومة قش تنتظر أول قلم ليشعلها!
في العراق، كل شيء مباح… إلا السؤال.
نعم، هناك قانون حرية تعبير – على الورق. جميل، مزخرف، مغسول بماء الديباجات القانونية.
لكنّه هشّ كتمثال من السكر في فصل الأمطار. تَقرأ نصوصه فتشعر أنك في السويد، وتخرج إلى الواقع فتدرك أنك في حقل ألغام دستوري، حيث تُحاكم النوايا، وتُقمع الأسئلة، ويُمنع السؤال عمّا إذا كانت الحرية مجرد مزحة سياسية ثقيلة.
هذا القانون، بدل أن يحمي التعبير، أصبح مطية لتأديب كل من يحاول أن يستخدم حقه في التعبير. يُفصّل على مقاس الخوف، ويُطبق على من لا يملك ظهرًا سياسيًا، أو غطاءً حزبيًا، أو قَبيلةً ترفع له الراية إذا ما غُيّب.
حين خرج شباب تشرين في 2019، لم يطلبوا أكثر من وطنٍ لا يُصادر فيه صوتهم. حملوا لافتات، ورددوا شعارات، وغنّوا للحرية… فإذا بالحكومة تُجيبهم بالرصاص، والميليشيات تبارك بالاختطاف، والشارع ينزف الحقيقة. كانت ثورة تشرين مشهدًا صادقًا في مسرح كاذب. فالمطالب بسيطة: عدالة، كرامة، ومكان للكلمة. لكن الرد كان قاسيًا، لدرجة أنك تشعر أن السلطة كانت تعتبر التعبير عن الرأي جريمة من الدرجة الأولى، تستوجب العقاب الفوري… وربما الأبدي.
لقد كانت تشرين محاولة جادة لكسر الصمت، لكنّها في الوقت ذاته كشفت هشاشة "الديمقراطية الورقية"، وأظهرت أن حرية التعبير في العراق ليست إلا مسرحية، يكتبها الحاكم، ويُمثّلها الإعلام الرسمي، ويُمنع الجمهور من تغيير السيناريو.
يتفاخر الدستور العراقي بالمادة 38، التي تضمن حرية التعبير بكل حب وحنان، ثم تترك المواطن عاريًا في وجه التهديدات والملاحقات والبلاغات الغامضة. فالمادة تقول: "لك الحق في التعبير"، لكن الشارع يقول: "اصمت، تنجو". القانون يفتح لك الباب، لكن الأمن يغلقه فورًا… بـ"إجراء احترازي". والمفارقة أن الصحفي في العراق لا يُمنع من الكتابة رسميًا، بل يُمنع عمليًا. لا توجد رقابة مباشرة، بل ضغط خفي، تهديد، تحريض، بلاغات كيدية، وتحقيقات تحت عنوان "الإساءة لهيبة الدولة". وكأن الدولة هيبةٌ من زجاج، يخدشها تعليق، أو تقرير، أو حتى منشور على فيسبوك.
من يراجع تاريخ القوانين العراقية، يكتشف حقيقة ساخرة: القوانين تكتب لصالح الشعب، وتُستخدم ضدّه. من دستور 1925 إلى اليوم، كانت الحرية حاضرة دائمًا في النصوص، وغائبة دومًا عن التطبيق. أما الآن، فالنصوص تحاكي ديمقراطية أوروبية، والتطبيق يُذكّرنا بـ"كوميديا سوداء" من عصر القياصرة.
والأخطر من ذلك، أن هناك من يريد تقنين القمع تحت عنوان "تنظيم حرية التعبير"، وكأن المشكلة في "الحرية" نفسها، لا في من يصادرها. يريدون قانونًا يجعل من الاحتجاج جريمة، ومن الانتقاد تهديدًا للأمن، ومن الكلمة جريمة مطبوعة بالحبر الأسود.
إن حرية التعبير في العراق ليست بحاجة إلى قانون جديد، بل إلى ضمير حي، ودولة تحترم شعبها، لا ترتعب منه. ليست بحاجة إلى بند دستوري آخر، بل إلى بيئة لا يُخاف فيها من السؤال، ولا يُجرّم فيها الفكر.
في العراق، لا نحتاج إلى حرية تُمنَح لنا، بل إلى حرية نستعيدها من بين أنياب السلطة، ومن تحت رماد الخوف.
حرية التعبير ليست شعارًا يُعلّق في واجهات المؤتمرات، بل فعل مقاومة يومي، يخوضه الصحفي، والناشط، والمواطن البسيط الذي يرفض أن يُعامل كأبكم في وطن يتغنى بالديمقراطية. وهكذا، تستمر "كوميديا" حرية التعبير في العراق، حيث تُجري القوانين بروفة حرية، بينما يُعرض الواقع على خشبة الخوف... وللأسف، الجمهور دائمًا حاضر، لكنه ممنوع من التصفيق.
إننا لا نحتاج إلى قانون جديد "ينظّم" حرية التعبير، بل نحتاج إلى إرادة سياسية تحترم الإنسان، وتضع الكلمة فوق الرصاصة، والفكرة فوق الخوف. وإلى أن يحدث ذلك، سنظل نعيش بين "نصوص دستورية تُنشد الحرية"، وواقع يقول لنا: "اخفض صوتك... القانون نائم."