ليس للشاعر أن يحيا خارج اللغة، وأن لا يجد سواها مجالا لصناعة أوهامه أو بطولاته، وعلى النحوِ الذي يجعلها لعبته أو اداته في ممارسة الطقوس، وفي الاشهار عن ما يتلجج داخله من وعي صاخب، ومن أسئلة ممضة.. هذا التوهم الداخلي لن يجعله بطلا، بل دفعه الى أن يسطو على التاريخ، وعلى التحول الى كائن منسحب من كينوته، والى حارس بلا براءة، لا يحمي المكتبة، ولا بيت العائلة، ولا ذاكرة التاريخ.. هذا الشاعر المطرود من النسق، النافر عن وهم الجيل، بات عنوانا للهزيمة "الثقافية" التي هي قناعٌ للهزيمة السياسية، حيث تتحول هذه الهزيمة الغامضة الى "حرب دونكيشوتية، لا أعداء حقيقين فيها، سوى ما يتسع من طواحين الهواء، حيث تتضخم اوهامه، مثلما تتضخم كراهيته، حيث يندفع الى مساكنة شهوة البحث عن مزيد من الأوهام، المخدوع بها بترميم الفراغ، أو ربما بالتعويض عنه، لاسيما وأن هذا الشاعر الهارب من الأيديولوجيا، ومن ذاكرة "الحزب السياسي" سيتحول الى "شاعر مراثي" أولها مرثاة نفسه، أو الإعلان عن هزيمة ذاته، حيث يستعيد التاريخ للسخرية، فلا مرايا له سوى العتمة، ولا مساحة له سوى المكوث في الضيق الأيديولوجي، والتذمر الشعري، والتشهي بما يصنعه من وعي مأزوم، ومن استعداد للتحول الى لص، والى صانع كراهيات بامتياز. في الخمسينات كان الشاعر متوّجًا برومانسية الحلم، وسؤال المغامرة، وقلق البحث عن معنى، لذا كان يمزج بين حريته الفائرة، وبين حساسيته الطبقية بالثورة والتجاوز، والتخلص من علّة الفقر الوجودي، فيكتب عن الثورة وكأنه يكتب عن صخب جسده، ويكتب عن "السعادة الثورية" وكـأنه يكتب عن الأنثى الموعودة، وباتجاه أن تكون خياراته في الكتابة، هي ذات الهواجس التي تساكنه، والاسئلة التي تلاحقه.. كتب السياب في البواكير عن "الثورة" وعن الحرية والحلم والبلاد، لكن خذلانه الجسدي والسياسي، وقلقه الوجودي جعله اكثر تمردا، وشغفا بالمغامرة، لكن ذلك التمرد، افقده براءة الحلم، فاندفع الى مزيد من الأوهام التي تشبه الخسارات، حيث خسارة الجسد تناظر خسارة الثورة، وحيث خسارة الأنثى تناظر خسارة اللذة، وحيث خسارة الحلم تناظر خسارة الحرية، فما تبدى من تلك الخسارات، وحتى وإن تعالقت بالتمرد الشعري، الا أنها تركت الشاعر وحيدا إزاء مزيد من القلق والخوف والكراهية، وإزاء خيار لم يكن بعيدا عن خيارات ايديث ستويل وأليوت حول فكرة الموت، الموت الذي ساكن ذاته، لكنه لم يساكن قصيدته..
الشعراء ما بعد الخسارة
في الستينيات ارتهن الزمن الشعري الى زمن سياسي اسود، فقد فيه الشاعر كثيرا من تلك الخيارات، بما فيها خيار البقاء عند الينابيع، حيث اخضعته خطيئة السلطة الى اكراهات الجسد، الذي بات هشا ورثا، وواقفا على قنطرة من المراثي. الحرية في الزمن تحولت الى قهر عميق، والى طرد يشبه خسارة، واللغة بدت اكثر انكسارا، تنزع الى البحث عن المجازات والاستعارات التي تنقذها من الجلاد، ومن الرقيب الأيديولوجي وليس الشعري، حتى السجن تحول الى متخيل متعال، يستعيد معه الشاعر الغائب، والمحذوف، حتى بات وكأنه تعويض عن فكرة الوطن الذي قتله الاستبداد، وصولا الى التماهي مع لعبة اللغة، حيث يجر الشاعر استعاراته، ليمارس من خلالها طقوسه في صناعة القرابين، وفي المراثي، وحتى في التلذذ بأنوثة القصيدة، والشغف بفكرة التطهير، لمواجهة الإحساس بالخسارة والخطيئة.
كثير من الشعراء الهاربين من الخسارة لم يتحولوا الى خيار التعويض، فانكسروا مثل عمود الخزف، اصابتهم لعنة السياسة بلعنة البحث عن اطمئنانات مغشوشة، فذهبوا الى البيان، والى التجريب، والى تقويض ثنائية الشاعر والشاهد، والى ارتكاب الخيانات الصاخبة التي تخلط بين الشعري والسياسي والثقافي والايديولوجي، وبما يجعلهم إزاء تداولية معقدة لمفاهيم الحرية والثورة والقصيدة والتجريب، وباتجاه تبدو فيه تلك المفاهيم وكأنها بلا اغطية، وبلا ضمانات، لأن ما جرى في الستينيات، وبعد انقلاب شباط الأسود 1963 كشف عن المخفي من " النسق الأيديولوجي" الزائف بالمعنى الماركسي، مثلما كشف عن ازمة المثقف بشكل عام، ازمة وعيه لحريته ولجسده، ولطبيعة الأيديولوجيا التي انكسرت صلادتها، وباتت مكشوفة مثل جسدٍ عارٍ امام نوبة التأويل الذي يشبه الرصاص..
خريف الشاعر..
ما بعد الستينيات، تغيّر العالم وكأنه انخرط في العاصفة، حيث اتسعت المنافي، وضاقت الحروب الكبيرة، او تشظت الى حروب صغيرة، لا أحلام فيها سوى إعادة ترميم الجسد الشعري، والذهاب بالقصيدة الى الحرية المخذولة، والى فضاء الأسئلة المُهدِدة، تلك التي تؤسس خطابها على الشك والارتياب.. الشاعر القديم الموهوم بالخلاص الايديوجي وجد في "المنفى" هامشه المفقود، وحريته السائلة، وزمنه الشخصي البارد، مثلما وجد فيه نوعا من "اللادرية" التي جعلته قريبا من خريفات عبرته، من خلال العمر واللغة، لم يتحرر فيها من اسئلته القديمة، ولا احزانه، تستثيره الاحتفالات والاستعادات وكأنها محاولة في ايقاظ المحذوف من زمنه الشعري، حتى صوته بلا ذاكرة، مشدودا الى لعبة، اقصى ما فيها مواجهة النسيان.. صخبه وشتائمه واوهامه لا تعني سوى شغفٍ تعويضي بالمكوث في الزمن، وهوس بالخلود، ذلك الذي لا يشبه حلم كلكامش، وحتى عشبته الشعرية لم تتحول الى ترياق للخلاص، فعاد الى حكاية صناعة الأوهام، يسعى من خلالها الى ترميم الفراغ، والى مواجهة الموت بالصخب، يركض في مضمار لا يخصه، سنواته التي عضّها الخريف جعلته مكشوفا امام خيانة الزمن، وربما جعل منها تهمة مازوخية، أو جرحا نرجسيا، لا يبحث فيه عن القاتل القديم، بل عن اوهامه بخيانة الاخرين له، رغم أن هذه الخيانة لا وجود لها، سوى ما يتخيله من اشباح تطارده، وحكايات لم تعد تثق بلياليه، فتركته عند اوهامه القديمة، يستعيد عبرها بطولة شعرية لم تعد صالحة، في الوقت الذي كان ينبغي أن يجعله الزمن حكيما، يمنح الخريف سحرا، وليس خواء.. شاعر الخريف، هو ذاته الشاعر الماكث في عزلتها، المشغول باحلامه وعقد سردياتها التي كشفت عن خوائه، وعدم قدرته على ممارسة الحرية بوصفها وعيا وليس عدوانا أو كراهيته، أو بوصفها شيخوخة تستدعي الحكمة، وليس السهو، والنسيان، يجاهر بالخسارة الشخصية وكأنها خسارة عمومية، فلا يملك سوى أن يمارس طقوسه في التذمر والسخط والعنف على المنابر، يصرخ، دون يرى العالم امامه، عالم الممكن كما سمّاه غولدمان، ذلك الماركسي الذي ادرك بأن العالم ليس كائنا فقط..