يقترب مجلس النواب بدورته الخامسة، من توديع قبة البرلمان، وسط موجة انتقادات حادة لأدائه التشريعي والرقابي، بعد أن شهدت السنوات الثلاث الماضية تراجعًا واضحًا في فاعليته، وتفاقم حالات الغياب والتأجيل، وضعف المتابعة لمهامه الدستورية.
فخلال هذه الدورة، التي امتدت من مطلع عام 2022 حتى خريف 2025، بدت المؤسسة التشريعية غارقة في الارتباك والتخادم السياسي والصراع على المناصب، أكثر من انشغالها بمسؤولياتها تجاه المواطنين، ما انعكس في أرقام الجلسات المنعقدة، وعدد القوانين المصوّت عليها، ومستوى المشاركة البرلمانية المتدني في مناقشة الملفات الكبرى التي تمس حياة الناس ومعيشتهم.
ومع اتساع الفجوة بين البرلمان والرأي العام، وتآكل الثقة الشعبية بالمؤسسة المنتخبة، تبرز الحاجة بشكل ملحّ إلى مراجعة شاملة لبنية العمل النيابي، وتفعيل أدواته الدستورية، بما يضمن بقاء صوت المواطن حاضرًا داخل قبة البرلمان، لا أن يُختزل في شعارات انتخابية، سرعان ما تتبخر بعد اغلاق صناديق الاقتراع.
تراجع نوعي في التشريع والرقابة
وكشف المرصد النيابي العراقي في مؤسسة مدارك، في تقريره النهائي للدورة البرلمانية الخامسة (2022–2025)، عن صورة مقلقة لأداء مجلس النواب، مشيرًا إلى تراجع نوعي في التشريع والرقابة، وتكرار المخالفات الإجرائية، وانخفاض الحضور النيابي إلى مستويات غير مسبوقة، ما جعل هذه الدورة "الأضعف في تاريخ الحياة البرلمانية الحديثة" بحسب وصف التقرير.
ويُعد هذا التقرير الرابع من نوعه ضمن سلسلة التقارير النهائية التي يصدرها المرصد منذ عام 2010، ويغطي المدة من 9 كانون الثاني 2022 وحتى 15 تشرين الأول 2025، مستندًا إلى متابعة دقيقة لمحاضر الجلسات والبيانات الرسمية وتقارير المجلس المنشورة.
تشريع أقل.. وأداء أضعف
وأظهر التقرير أن مجلس النواب في دورته الخامسة عقد 140 جلسة اعتيادية، و6 جلسات استثنائية، وجلستين تداوليتين فقط، وهو رقم أدنى من المعدل المطلوب نظاميًا الذي يقضي بانعقاد ثماني جلسات شهريًا، أي نحو 256 جلسة خلال المدة نفسها.
أما على مستوى التشريع، فقد صوّت المجلس على 69 قانونًا فقط، في حين بلغت القوانين المصوّت عليها في الدورة الثانية (216 قانونًا)، والثالثة (164 قانونًا)، والرابعة (91 قانونًا).
ويشير المرصد إلى أن هذا الانخفاض الكبير “يعكس غياب التخطيط التشريعي وضعف التنسيق بين اللجان الدائمة والهيئة الرئاسية”. كما كشف التقرير أن السنة الثانية من عمر البرلمان كانت الأكثر إنتاجًا تشريعيًا بواقع (35 قانونًا)، بينما لم تشهد السنة الأولى سوى قانونين فقط، ما يدل على حالة من «الشلل المؤسسي» خلال المراحل الأولى لتشكيل الحكومة وانتخاب الرئاسة.
جلسات بلا موعد ثابت
ومن أبرز ما سجله المرصد أن المجلس أجّل عقد جلساته 20 مرة خلال الدورة الخامسة، رغم إعلان جدول أعمالها مسبقًا.
كما بيّن أن كل الجلسات دون استثناء تأخرت عن مواعيدها الرسمية، ولم تُعقد أي جلسة في موعدها المعلن منذ بداية الدورة حتى إعداد التقرير.
وسجّلت إحدى الجلسات عام 2023 أطول فترة تأخير بلغت عشر ساعات وخمسًا وعشرين دقيقة، وهي حالة وُصفت بأنها “غير مسبوقة في التاريخ التشريعي”.
وأشار التقرير إلى أن مثل هذه التأجيلات “تضر بالانضباط البرلماني، وتؤثر في ثقة المواطنين بمؤسسة البرلمان بوصفها ممثلًا لإرادتهم السياسية”.
أرقام مقلقة وغياب للشفافية
وكشف التقرير أن معدل حضور النواب العام بلغ 173 نائبًا فقط، ما يعني أن نحو 156 نائبًا كانوا غائبين كمعدل عام في كل جلسة.
وحمّل المرصد رئاسة المجلس مسؤولية حجب معلومات الحضور والغياب عن الرأي العام، في مخالفة واضحة للمادتين (10 و11) من قانون مجلس النواب، والمادة (18) من نظامه الداخلي، التي توجب نشر أسماء الحاضرين والمتغيبين في موقع المجلس وإحدى الصحف.
وقال إن “امتناع رئاسة المجلس عن نشر هذه البيانات يضع جميع النواب تحت طائلة الاتهام بالتقصير، ويكرّس حالة من الغموض في أداء المؤسسة التشريعية”.
كما أكد المرصد أن غياب الشفافية في هذه القضية “يمس جوهر المساءلة العامة ويُضعف أدوات الرقابة المجتمعية والإعلامية”.
215 نائبًا بلا صوت برلماني فعلي
وتضمن التقرير رصدًا تفصيليًا لنشاط النواب في الجلسات العامة، مبيّنًا أن 76 نائبًا لم يسجلوا أي مداخلة أو نقطة نظام طوال ثلاث سنوات، فيما اقتصرت مشاركة 48 نائبًا آخرين على مرة واحدة فقط، و48 نائبًا آخرين مرتين.
أما العدد الإجمالي للنواب الذين كانت مشاركتهم محدودة جدًا (مرة في السنة أو أقل)، فبلغ 215 نائبًا من أصل 329.
وأشار المرصد إلى أن “هذه الأرقام تُظهر خللًا واضحًا في التفاعل البرلماني، وتكشف أن جزءًا كبيرًا من أعضاء المجلس لم يمارسوا دورهم النيابي بصورة فعلية”.
ضعف في الدور الرقابي
وفي الجانب الرقابي، سجل التقرير استجوابين فقط خلال الدورة الحالية، كلاهما موجهان إلى رئيس شبكة الإعلام العراقي، أحدهما بتهم تتعلق بـ“هدر المال العام”، والآخر بـ“تضارب المصالح”.
كما لم يتجاوز عدد الأسئلة الشفوية أربعة أسئلة فقط، وهو رقم متدنٍ جدًا مقارنة بالحاجة الرقابية للمرحلة.
وأشار المرصد إلى أن عددًا من النواب، أتموا الإجراءات القانونية لاستجواب وزراء التجارة، النفط، الدفاع، الكهرباء، والاتصالات، إلا أن رئاسة المجلس “لم تُدرجها في جدول الأعمال لأسباب غير معلنة”.
وأكد التقرير أن “العمل الرقابي فقد فاعليته، وتحوّل إلى أداة شكلية خاضعة للمساومات السياسية”.
وسجل المرصد أكثر من 14 مخالفة صريحة للدستور والنظام الداخلي للمجلس، أبرزها: عدم نشر محاضر سبع جلسات رسمية، وخلو بعض الجلسات من جدول أعمال مكتوب، فضلا عن عدم اكتمال النصاب القانوني في أي جلسة منذ بداية الدورة. إضافة الى استمرار العمل وفق نظام داخلي غير منشور رسميًا في الوقائع العراقية، وتخلف المجلس عن عقد 116 جلسة من أصل 256 مفترضة، تمرير مشاريع قوانين قبل التصويت على النظام الداخلي، وأيضا غياب آلية واضحة لإدارة اللجان أو تحديد أولوية الحضور للأعضاء فيها.
اضطراب سياسي في انتخاب رئاسة المجلس
ووثّق التقرير تفاصيل انتخاب رئيس مجلس النواب الجديد محمود المشهداني، الذي فاز بعد جولتين تصويتيتين حصد فيهما 182 صوتًا مقابل 42 صوتًا لمنافسه سالم العيساوي.
وأشار المرصد إلى أن الجلسة شهدت “توترًا سياسيًا واضحًا يعكس هشاشة التوافقات داخل الكتل”، كما أشار إلى أن المجلس “ظل ناقص العدد لأشهر متواصلة، ما أثّر في انتظام عمل اللجان واستقرار المؤسسة التشريعية”.
خلص التقرير إلى أن الدورة البرلمانية الخامسة “اتسمت بضعف الحضور، وتراجع الفاعلية التشريعية، وتزايد المخالفات القانونية والإدارية، وفقدان الشفافية في الأداء النيابي”.
وأوصى المرصد بنشر الحضور والغياب بشكل دوري وعلني التزامًا بالقانون، وإصلاح النظام الداخلي وضبط آليات عمل اللجان. كما شدد على ضرورة تفعيل الدور الرقابي وإلزام رئاسة المجلس بإدراج الاستجوابات في جدول الأعمال، والحد من ظاهرة التأجيل والتعطيل التي أضعفت الثقة بالبرلمان.
واكد على تعزيز الانفتاح الإعلامي ونشر محاضر الجلسات الكاملة لتمكين المواطنين من المتابعة والمساءلة.
وختم المرصد تقريره بالقول إن “إصلاح الأداء البرلماني لم يعد خيارًا سياسيًا بل ضرورة وطنية، لضمان استمرار النظام الديمقراطي على أسس مؤسسية شفافة ومسؤولة”.
انعكاس لتداعيات المحاصصة
ويعلل النائب ثائر مخيف، أسباب تراجع البرلمان وتعطيل الجلسات إلى "عدم احترام بعض النواب للمسؤولية والثقة التي منحها لهم الشعب"، مشيراً إلى أن بعض فقرات جدول الأعمال لا تمس شريحة واسعة من المواطنين، بل تخدم فئات ضيقة، ما يعمق حدة الخلافات بين الكتل.
فيما قال عضو اللجنة القانونية النيابية، محمد عنوز، ان غالبية نواب هذه الدورة يستخفون بمسؤولياتهم أمام الشعب، في ظل تكرار ظاهرة الغياب غير المبرر، وغياب الإجراءات الرادعة من رئاسة المجلس بحق المتغيبين.
واضاف ان الشلل البرلماني انعكس سلباً على تشريع القوانين المهمة وممارسة الرقابة على الحكومة.
وفي ظل هذا الواقع الذي يعيشه البرلمان، يصف المحلل السياسي مهند الراوي الدورة البرلمانية الخامسة بأنها "الأسوأ والأقل مستوى" من بين جميع الدورات التي أعقبت عام 2003.
ويقول الراوي، أن سلسلة الأزمات التي ضربت البرلمان، بدءاً من انسحاب التيار الصدري، وإقالة رئيس المجلس السابق محمد الحلبوسي، وصولاً إلى أزمة اختيار رئيس جديد استمرت نحو عام، قد أدخلت المؤسسة التشريعية في "نفق مظلم".
ويضيف أن "وصف هذه الدورة بالأسوأ لا يتعلق بالأشخاص بقدر ما يرتبط بالأداء السياسي العام، الذي تميز بالصراعات والجدل السياسي، وخطابات متأزمة، وخروقات بحسب ما يصرح به بعض النواب، من بينها تمرير قوانين دون اكتمال النصاب القانوني".
وكان مجلس الوزراء قد حدد يوم 11 تشرين الثاني 2025 موعداً لإجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة، فيما سمحت مفوضية الانتخابات للحملات الدعائية للمرشحين بالانطلاق منذ 8 تشرين الأول الحالي، وتستمر لغاية آخر 24 ساعة قبل بدء التصويت الخاص. ويحق لنحو 20 مليون عراقي من أصل 46 مليون نسمة المشاركة في هذه الانتخابات، ويبقى السؤال عن ما ستحمله الانتخابات القادمة من تغييرات في تركيبة المجلس لانتشاله من حاله الراهن، والامر كله مرهون بالمواطن وحسن خياراته، وبالمشاركة الجماهيرية الواسعة يوم 11 من تشرين الثاني المقبل.