اخر الاخبار

بغداد – طريق الشعب

في تطور يعكس تعقيد العلاقة بين الحكومة العراقية وشركات التكنولوجيا العالمية، كشف أحدث تقرير للشفافية أصدرته شركة "ميتا" لشهر تشرين الأول/ أكتوبر 2025، عن تسجيل طلبات رسمية من العراق لتقييد محتوى رقمي على منصاتها، لتعيد بذلك ملف الحريات الرقمية في البلاد إلى الواجهة.

وفق التقرير، أرسلت هيئة الإعلام والاتصالات طلبين رسميين إلى "ميتا" لتقييد منشورين على فيسبوك داخل العراق، من دون حذفهما عالميًا، مستندة إلى قرارات المحكمة الاتحادية العليا رقم 325 و331 لسنة 2023، إضافة إلى المادة 229 من قانون العقوبات العراقي، التي تُستخدم غالباً في القضايا المتعلقة بـ"الإساءة إلى موظف أثناء أداء واجبه الرسمي".

تقول ميتا إن المنشورين تضمّنا اتهامات بالفساد والتحيّز ضد مسؤولين قضائيين، وإن الهيئة لوّحت بفرض عقوبات مالية وإدارية في حال عدم الامتثال، من بينها حظر الإعلانات التجارية على منصات الشركة داخل العراق، ومنع التحويلات المالية الموجهة إليها من قبل البنك المركزي.

تضارب مع الدستور والقوانين الدولية

بحسب أمر سلطة الائتلاف رقم 65 لسنة 2004، الذي أنشأ هيئة الإعلام والاتصالات، يفترض أن تتمتع الهيئة بالاستقلالية، وأن تلتزم بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الموقع عليه العراق منذ عام 1971. ويكفل المادتان 19 من العهد و38 من الدستور العراقي الحق في حرية التعبير وحرية النشر، ويشترطان أن يكون أي تقييد للحريات بقرار قضائي مكتسب للدرجة القطعية.

لكن في هذه الحالة، توضح ميتا أن منشورات المستخدمين لم تنتهك معاييرها المجتمعية العالمية، وأن التقييد اقتصر على العراق فقط، في ما يشبه الرقابة الجغرافية (Geo-Blocking)، وهو أسلوب حجب متزايد تستخدمه الحكومات للسيطرة على المحتوى داخل حدودها.

تضييق متنامٍ على الفضاء الرقمي

تُظهر بيانات مؤسسة أنسم للحقوق الرقمية أن العراق يشهد منذ عام 2024 تصاعداً ملحوظاً في حجم الطلبات الحكومية لتقييد المحتوى. ففي الفترة بين كانون الثاني وحزيران من العام نفسه، تم تقييد الوصول إلى أكثر من 200 مادة رقمية، بزعم مخالفتها للقوانين المحلية، وارتفع العدد إلى 250 مادة في النصف الثاني من العام، استنادًا إلى المادتين (229) و(433) من قانون العقوبات، إضافة إلى قانون حظر حزب البعث.

هذا الاتجاه يمثل قفزة كبيرة مقارنةً بعام 2019، الذي شهد آخر تقييدات معلنة قبل موجة الحجب الجديدة، ما يشير إلى تحوّل واضح في سياسة الرقابة الحكومية نحو تضييق متزايد على المحتوى النقدي والإعلامي.

تيك توك تحت المجهر

ولم تقتصر الرقابة على ميتا، إذ رصد تقرير "أنسم" ارتفاعاً في الطلبات الحكومية الموجهة إلى تطبيق "تيك توك" لحذف محتوى أو تقييده داخل العراق.

فخلال النصف الثاني من عام 2024، وصل عدد الطلبات الرسمية إلى 454 حساباً ومادة، مقابل 140 فقط في النصف الأول.

واستجابت الشركة إلى نحو 89.6% من الطلبات، وهي نسبة تُعد من الأعلى عالميًا، ما وضع العراق في المرتبة الـ15 عالميًا بعدد الطلبات الحكومية لتقييد المحتوى.

الرقابة المالية كسلاح جديد

بحسب تقارير "ميتا"، لجأت هيئة الإعلام والاتصالات إلى الضغط المالي كوسيلة للامتثال، عبر التهديد بوقف الإعلانات الممولة وحجب التحويلات البنكية، وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية تجاوزاً لمبدأ الحياد المؤسسي، وتدخلاً في النشاط الاقتصادي للقطاع الرقمي.

وتؤكد مؤسسة أنسم أن الرقابة الرقمية في العراق لم تعد تبرر بأسباب أمنية أو تتعلق بخطاب الكراهية، بل باتت ذات دوافع سياسية واقتصادية، تستهدف الأصوات الناقدة والمؤسسات الإعلامية المستقلة. وتضيف أن هذا النهج يهدد بتقويض ثقة المواطنين في الإنترنت كمساحة آمنة للتعبير والمساءلة.

وترى أن سياسة “الرضوخ مقابل البقاء” التي تفرضها الجهات التنظيمية على شركات التكنولوجيا العالمية، تحوّل الفضاء الرقمي العراقي إلى منطقة مراقبة شبه دائمة، وتعيد البلاد إلى أجواء الرقابة المسبقة التي عرفها الإعلام التقليدي في مراحل سابقة.

دعوات إلى الشفافية والمساءلة

من جانبه، دان تحالف الدفاع عن حرية التعبير في العراق، الذي يرعاه المرصد العراقي لحقوق الإنسان (IOHR)، الإجراءات الأخيرة الصادرة عن هيئة الإعلام والاتصالات، والتي تمثلت في محاولات فرض رقابة على مؤسسات إعلامية مستقلة، وإبرام اتفاقيات مع منصات "تيك توك" و"ميتا" (فيسبوك وإنستغرام) لتقييد أو حجب حسابات إعلاميين ومدونين.

وقال بيان للتحالف، إن هذه الخطوات تمثل انتهاكاً صريحاً للدستور العراقي وللالتزامات الدولية للعراق في مجال حرية التعبير، ولا يمكن اعتبارها سوى محاولة ممنهجة لتكميم الأفواه وإسكات الأصوات المستقلة، بما يشكّل تراجعاً خطيراً عن المكاسب الديمقراطية التي تحققت بعد عام 2003.

وذكّر التحالف بأن المادة (38) من الدستور العراقي تنص بوضوح على أن "تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب، حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر"، معتبرا أن "أي تقييد لهذه الحريات لا يجوز إلا بموجب قانون واضح وبقرار قضائي مستقل، وليس عبر قرارات إدارية أو تفاهمات سرّية مع شركات أجنبية".

وتابع أن "هذه الممارسات تشكل انتهاكاً للمادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادق عليه العراق عام 1971، والتي تكفل حق كل فرد في البحث عن المعلومات وتلقيها ونشرها دون تدخل غير مبرر من السلطات العامة".

تعدٍ على السيادة الوطنية

واعتبر التحالف أن الاتفاقيات المبرمة مع الشركات الأجنبية المالكة للمنصات الرقمية، لتقييد أو حذف المحتوى الإعلامي المحلي، تمثل تعدياً على السيادة الوطنية، لأن هذه المنصات تعمل وفق قوانين دولية تحظر تزويد أي جهة حكومية بحق الوصول إلى البيانات أو القدرة على الحجب من دون أوامر قضائية.

وحذر من أن تحويل هذه المنصات إلى أذرع للرقابة الحكومية سيؤدي إلى خلق بيئة رقمية خانقة، ويفتح الباب أمام الرقابة المسبقة والوصاية على المحتوى الإعلامي والصحافي، ما يعني فعلياً نهاية حرية الإعلام المستقل في العراق

كذلك نبه الى أن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى تراجع تصنيف العراق في مؤشرات حرية الصحافة وحرية الإنترنت، وسيضع مؤسسات الدولة في موقف حرج أمام المجتمع الدولي ومجلس حقوق الإنسان في جنيف، الذي يراقب عن كثب أوضاع حرية الإعلام في البلاد.

ورأى أن "الرقابة الرقمية ليست سوى وجه جديد للقمع السياسي، وهي تسعى إلى السيطرة على السردية العامة واحتكار الحقيقة وتكميم النقد المشروع، في الوقت الذي يُفترض فيه أن الدولة تحمي حرية التعبير لا أن تقمعها".

مطالبات بلجنة تحقيق مستقلة

وطالب تحالف الدفاع عن حرية التعبير في العراق الرئاسات الثلاث، بـ"التدخل الفوري لإيقاف الإجراءات الرقابية التي أطلقتها هيئة الإعلام والاتصالات، وإلغاء جميع الاتفاقيات المبرمة مع الشركات والمنصات الدولية التي تؤدي إلى تقييد حرية النشر"، مشددا على "ضمان بيئة آمنة ومستقلة لعمل الصحفيين والمدونين ووسائل الإعلام، دون تهديد أو حجب، وبما ينسجم مع التزامات العراق الدستورية والدولية".

كما دعا الى "تشكيل لجنة تحقيق مستقلة تضم ممثلين عن القضاء، ومنظمات المجتمع المدني، لمراجعة قرارات الهيئة ومساءلة المسؤولين عن التجاوزات الأخيرة"، مع "التأكيد على مبدأ الشفافية والمساءلة في عمل المؤسسات التنظيمية للإعلام، ورفض أي تدخل سياسي في قراراتها أو انحرافها عن دورها المهني".

واختتم التحالف بيانه بأنه "سيواصل توثيق جميع الانتهاكات بحق الإعلاميين والمدونين، وسيتخذ إجراءات قانونية لضمان محاسبة المسؤولين عن هذه التجاوزات"، مضيفا انه "سيعمل مع شركائه في التحالف الدولي لحماية حرية التعبير والصحافة على رفع هذه الانتهاكات إلى المقررين الخاصين في الأمم المتحدة، وإلى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في جنيف، لضمان ألا تمر هذه السياسات دون مساءلة".