اخر الاخبار

النقد والفلسفة ثنائية صعبة، لكنها ضرورية رغم ما فيها من المفارقات، فالنقد لم يعد ممارسة كفاية في التقويم والفحص، بقدر ما اضحى نسقا تفاعليا يقوم على التمثيل الفلسفي للأفكار، وعلى تغذية النقد بالمفاهيم التي جعلها دولوز الوظيفة الفلسفية الخالصة.. التفاعل والتشاكل بين الفلسفة والنقد رهان ثقافي على قوة المعرفة، وعلى جدّة النقد في صياغة الأسئلة، وفي تعزيز فاعليات "القراءة والتلقي" مثلما هو تمثيل لقوة الأفكار وجدواها في الفلسفة، عبر عقلانيتها في إعادة توجيه  أسئلة النقد ذاته، وعلى النحو الذي يُسهم في توسيع مساحات تحليل الخطابين النقدي والفلسفي معا، ليكونا أدوات ووسائط  فاعلة في استشراف ملامح وسمات النقد الجديد، وتمثلاته في حقول معرفية وتاريخيانية وانثربولوجية ونسقية مثل النقد الثقافي والدراسات الثقافية، بوصفهما مجالات مفاهيمية تتخصّب فيها أسئلة النقد بالفلسفة.. الجديد في النقد يعني الجديد في الفلسفة، فالمساءلة النقدية لم تعد مجالا مغلقا للبلاغة والتصويب اللغوي، بقدر ما بدت ضرورتها واضحة في صياغة الخطاب، وفي ما يثيره من اسئلة، أو في ما يتطلبه من "قطائع معرفية" تخص آليات التقدم في سياق المعرفة، وفي مقاربة مفاهيم الزمان والفكر والنسق وغيرها، كما أن مقاربة الفلسفة لم تعد تُعنى بها بوصفها جزءا من "الميتافيزيقا" ومن التاريخ العام للأفكار، بقدر ما أنها تحولت الى نظام معرفي تتكامل ادواته عبر النقد العقلي للميتافيزيقا، و " تزود النقد بالمنهجية والأدوات اللازمة للتحليل والتقييم". هذه "النقود" لم تعد مجردة، وخارج الاستعمالات الثقافية، فقد بدت وكأنها من اكثر الرهانات عمقا على المعرفة التي تقدمها الفلسفة، وعلى العلم الذي يتكىء عليها، وعلى إعطاء سمة العلموية لكل الاشتغالات التي تخص الأفكار، بما فيها التاريخ والفيزياء والاثار الجنوسة والقضايا التي تخص النسوية، ونقد النقد ونظريات الادب والسياسة واطروحات ما بعد الكولنيالية وغيرها. من هنا اخذ السؤال النقدي حيويته الثقافية، على مستوى صياغة الوعي النقدي ليبدو وعيا فلسفيا، أو على مستوى صياغة الوعي الفلسفي ليكون قوة الكشف، والعنصر الأبرز في تشغيل مساحة الدرس الفلسفي.. وبهذا فإن تعزيز المشغل النقدي بالفاعلية الفلسفية بات قرينة بجدوى منح النقد طاقته المعرفية، وفاعليته في التعبير عن حيوية "الذات المفكرة" كما عند ديكارت، وعن معرفية العقل وحدوده كما عند كانط، وعن جدلية هيغل ونظرته المتعالية للأفكار وضرورة علاقتها بالفلسفة، على مستوى صياغتها، أو على مستوى نقد أنظمتها، وصولا الى ماركس وجدليته المادية والتاريخية، وكشوفاته اللامعة في اغناء الدرس الفلسفي والنقدي، وفي تحويل مجالهما الى مجال معرفي مفتوح، سياسيا وتاريخيا، له وظائفه النقدية القائمة على أساس                                                                                                                                                  نقد الرأسمالية، في صيغتها كنظام للاحتكار، ونظام للأفكار التي تتكرس عبرها مظاهر الهيمنة والاستعباد  والصراع الطبقي، والأفكار المثالية التي تتحول الى سلطة متعالية في عنفها وفي فرض مركزياتها الطبقية..

 الفلسفة والقطيعة النقدية..

قطيعة الفلسفة عند نيتشه بدت اكثر حيوية في تحولها الى قطيعة نقدية، والى لحظة مفارقة أعطت للنقد رخما كبيرا، وخيارات متعددة، من منطلق أن النقد يحتاج الفلسفة لدعم فاعليته في الرؤية، وفي التحليل، مثلما أن الفلسفة تحتاج النقد لتقويض كثير من مثاليتها ومركزياتها التي تحولت الى "متعاليات" حادة، افقدت الفلسفة جدواها، واعاقت قدرتها على كشف الذات المفكرة، وعبر ما يجعلها تتجاوز وجودها واصطناع وجود مواز، عبر اللغة وعبر المعرفة، وعبر صياغة فلسفية للظواهر كما أراد الفلاسفة الظاهراتيون هوسرل ومريدوه _ هيدغر، سارتر، ميرلو بونتي- ثمة من يدعو لاعادة توصيف علاقة النقد بالفلسفة، من خلال الحديث عن علاقة النقد ب"المصلحة" وبأن الفلسفة في "حدود امتياز العقل" هي القوة الإجرائية التي تعيد الهيبة للنقد، وتجعله اكثر نافعا في الدرس الاكاديمي، وفي حيازة ادوات رؤية العالم، وبما يجعل من النقد مجالا يعزز تجديد مستويات القراءة، بوصفها جزءا من مساحات انعاش التعرّف على الفلسفة، وعلى  وموضوعاتها، فربط هذه الدوافع بمرجعيات الفلسفة يتعزز من خلال بيان الحاجة الى "الصلاحيات" العاقلة، والى وظائفها النقدية  في تقويض المزيد من "الميتافيزيقا" الجديدة، التي باتت تتمثلها اشباح نزعات الليبرالية الجديدة، وانماط الاستهلاك، والشركات العابرة للقارات، والموضات والصراعات الاهلية والعنصريات الشعبوية، وصولا الى حروب التجارة والجغرافيا والأسلحة النووية، ولعل ما يحدث في حرب أوكرانيا يكشف عن ازمة عميقة في رهانات "العقل الغربي"، كاشفا عن عن ازمة حقيقية في إعادة توصيف مفهوم "الأوربة" التي سعت الى تكريسه فلسفات ديكارت وكانط وهيغل، من منطلق مركزية ذلك العقل، وتمثيل قيم العليا التي بدت واضحة في قيم الحداثة والانوار والاستعمار والإصلاح الديني، وصولا الى  سياسات التبشير والاستشراق وصياغة مفهوم "الدولة القومية" وليس انتهاء بمفهوم "المجال العام" الذي اقترحه الفيلسوف الألماني هابرماز، والذي هو غير بعيد عن المركزية الأوربية، ولا عن المجال العام البرجوازي.. تفاهم مظاهر "الميتفيزيقا الجديدة" تحول الى أزمة أخلاقية بالمفهوم الايطيقي، وعلى النحو الذي بات يدفع الى حديث المغايرة والاختلاف، والى جعل التجديد في اطروحات الفلسفة مرهونا بجدوى الحديث عن النقد، لأن سؤال الجدوى هنا، هو سؤال نقدي فاعل، وأنه جزء من "عمران العقل" بتوصيف كانط، وعلى نحوٍ يجعله  أداة فاعلة في المراجعةـ وفي إعادة النظر بكثير من الحدود والاحكام التي سبق وأن تحدّث عنها كانط في اطروحاته النقدية حول " العقل العملي، والعقل النظري، والدين في حدود مجرد العقل" النظر في سؤال النقد لا يعني الاكتفاء بنقض تلك الاحكام والحدود، بل يتجاوز الأمر الى مراجعة مفاهيم الفلسفة ذاتها، حول الوظائف والاستعمالات، وحول علاقة بالمعرفة والاقتصاد والسياسة والاجتماع، وحتى بالدين بوصفه مجالا لاختبار كثير من المقولات، ومن اليات العمل التي تخص كل التحولات المعقدة في "عالم الغرب" الذي تحول الى عالم شره وغرائبي في نظامه السياسي والمعرفي، وفي علاقاته مع الآخر، وباتجاه تكرّست معه قيم متناقضة، توزعت بين قيم حقوقية وإنسانية ارتبطت بصورة "الغرب الثقافي" وبين قيم متعالية للعنف والتعصب والكراهية والعنصرية ارتبطت بصورة "الغرب السياسي/ الاستعماري/ الاستشراقي"

 النقد- الفلسفة والصدمة الثقافية

ما يحدث اليوم يكشف عن "صدمة ثقافية" وعن حاجات ايطيقية ونقدية لتأمين مواجهة عقلانية، تقود الى إعادة النظر بكثير من السياسات التي صنعت أزمة الغرب المعاصر، بما فيها أزمات التضخم والعسكرة والبطالة والاستهلاك ودعم الجماعات الارهابية، فضلا عن أزمات الرأسمالية ذاتها، وعن أزمات ما تخفيه من مظاهر القمع والجنوسة والسجن بتوصيف ميشيل فوكو، ومن التباسات تأويلها لمفاهيم السلطة والحرية والعدالة والتعدد، ومشروعية العنف، والنظر الى التاريخ والاجتماع والآخر، وصولا الى التعرّف على المخفي في قضايا الدين والخطاب، فما حدث في حرب "يوغسلافيا" السابقة وما يحدث اليوم في أوكرانيا بعيدا عن ازمة الذات الدينية الغربية، ونظرتها للمسيحية الشرقية الارثودوكسية، والتي دفعت الى تقويض الكنائس ذاتها كما حدث في أوكرانيا خلال حربها مع روسيا، وهو ما يناقض صورة الغرب العلماني الذي جعل من سياساته في "الارجاء" مجالا لتقويض ونقد المركزيات كما يقول جاك دريدا، بما فيها مركزية الميتافيزقيا والنظام والسلطة والهوية، وصولا الى نقد الحداثة ذاتها، وهو ما اسهم في جعل سؤال النقد مفتوحا، بوصفه سؤال الجدوى أولا، وسؤال المعرفة ثانيا، وسؤال نزع التاريخ عن ثيابه الإمبراطورية التي صنعها الاقطاع و الكنسية في زمن ما، مثلما صنعتها البرجوازية في غلوها الطبقي في زمن آخر، وصنعتها الراسمالية المعاصرة في زمن آخر، لكن ما تصنعه "الليبرالية الجديدة" اليوم هو المجال الاشكالي الذي فجّر أسئلة القطيعة والتشظي، ومقاربة أسئلة الفلسفة، عبر إعادة توصيف السؤال النقدي، من خلال توسيع مجال الدراسات الثقافية، بوصفها دراسات نقدية تقوم إعادة تقييم مفاهيمية للمعرفة والتقدم والحداثة، فضلا عن إعادة تهيئة "البيئة الثقافية" للقبول بتداولية فاعلة لما يتعلق ب"المستقبليات" عبر نقد التاريخ والنظام والعقل، والميتافيزيقيا الجديدة، وصولا الى القبول بمعطيات عالم الخورزميات وتطبيقات الثورة المعلوماتية، والتعاطي بنقدية حذرة مع " سرديات "الذكاء الاصطناعي" وما يقترحه من اطروحات تخص وظائف الفلسفة والنقد والتاريخ والمعرفة والمركز والسلطة..