تكاد روايات طه حامد الشبيب تندرج ضمن تيار مهم من تيارات الأدب الروائي العراقي تحت مسمّى "التاريخانية الجديدة" الذي نشأ في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أنّ كثافتها الرمزية تفرزها صنفاً فريداً في نوعها وبنائها الحكائي. ومن بين من اشتُهِروا بريادة هذا التيار (عبد الخالق الركابي، ومَن لحقَه بعد فاصل التغيير السياسي في ٢٠٠٣، أحمد سعداوي وبرهان شاوي ونصيف فلك ورغد السهيل ومرتضى كزار وضياء الجبيلي ووحيد غانم وبيات مرعي وسعد السمرمد وأحمد دهر). ويكاد الشبيب يستقلّ عن هؤلاء جميعاً بالتنوع وكثرة الإنتاج، والتدفق الخارق للحواجز والموانع الجيلية والظروف المتغيرة. وحين نتوسع في هذه الخصوصية، نجد أن أعمال الشبيب الروائية التي ظهرت في نهاية القرن الماضي (برواية- إنّه الجراد- متسلسلة في جريدة الجمهورية، قبل طبعها في كتاب عام 1995) ووصلت ذروتها مع فاصل التغيير السياسي مطلع القرن الجديد، قد أسهمت في وضع حدّ أخير لظاهرة الأجيال الأدبية، واجتازت ثنائية الكاتب والسلطة التي ربطت الأدباء بهيمنة الإيديولوجيا السلطوية في ذبذبة تراوحت بين الالتصاق والخضوع، أو الهجرة والاغتراب. نقلت روايات طه الشبيب المشغلَ السردي العراقي من حالة الانكماش إلى حالة المواجهة والاقتحام، بارتدائها درع الفانتازيا حيناً، والتجريب "الفكراني" البحت أحياناً كثيرة. وكانت في كل هذه المحاولات التجاوزية تقارب ما يدعوه الشبيب ب"النصّ الداخلي" الذي تنبع حوادثه من نسيجه ذاته، من دون إيحاء خارجي من الواقع؛ فكأنه بهذا الاعتبار نصّ يلقح ذاته بلقاح من جنسه. فالنصّ يبدأ من فكرة أولية يفترضها الكاتب ويبرهن عليها، ثم يدفع بالبرهان إلى القارئ لكي يتفاعل معه من موقعه الخارجي ولحظته التاريخية المحايثة لإجراءات النصّ وتشكله الأخير. ويمكننا تأويل مفهوم "النصّ الداخلي" بنوع من التناصّ الداخلي، المقابل للتناصّ الخارجي، فالرواية تخصّب/ تلقّح ذاتَها بمصل من فكرتها الأولية ذاتها، بما يشبه التطعيم المثيل المعروف في علم الأمراض باسم "الهوموباثي"_ أي تلقيح شخص بلقاح من فيروس المرض الذي تخشى الإصابة به (وتشبيهنا الأخير استوحيناه من اختصاص طه الشبيب الطبّي بعلم الباثولوجي، بالتوازي مع استيحاء فؤاد التكرلي ثيمات أعماله السردية من ممارسته مهنة القضاء، كما شاع بين النقاد).
وبينما في يوم ما كتبتُ مقالاً موسَّعاً عن روايته (مواء) الصادرة عام ٢٠٠٩، إلا أن تنوّع الإنتاج وخصوبته بما يمكن وصفه بالإيقاع المنتظم والتدفق الخارق للحواجز الجيلية والمتغيرات الظرفية، يكفّ أيدينا عن كتابة بحث خاصّ بإحدى روايات طه الشبيب، ويفتح الحديث عن خاصيات تشمل أعماله كلها. وكما أنّ المجال الحرّ لأعمال الشبيب يصرفنا عن حصر أعماله في قيمة معيارية وجمالية واحدة، لا يسعنا إلا الانفلات من حدود المصطلح والانتقال إلى انفتاح النسق الذي تنتظم فيه رواياته. فبدلاً من حصر هذه الروايات بمصطلح نقدي يفترض إضفاء السحر على الواقع مسبقاً، شاء الشبيب أن يقلب العملية بانبثاق السحر من نسيج العمل وفكرته أولاً. وبموجب هذا النسق البرهاني، ينشأ شكلُ الرواية من مضمون يتسع ويتدفق داخلياً ثم يختار بنيانه الحكائي. وتمكننا هذه النقلة النظرية الإشارة إلى نسق ضامّ وشامل هو نسق "الضفيرة" الذي يجدل الأعمال الكثيرة في جديلة متناسقة الجمال والقوة. (علماً أن- الضفيرة- هو عنوان إحدى روايات الشبيب، التي فازت بجائزة نجيب محفوظ عام 2000). ففي رواية واحدة يقوم الكاتب/ الراوي بجدل الحدث في شكل ضفيرة متناسقة الأطراف عديدة الشخصيات. بل إنّنا قد نجد مجموعة ضفائر مجدولة في العمل الواحد، فكأن تشبيهنا لهذا النسق يحاكي ضفر الشَّعر الكثيف في رأس بدويّ أو بدويّة إلى عدد من الجدائل المتدلية في شكل "السّبيب" (أي شَعر الحصان) على حدّ قول أحد شعراء قبيلة "الضفير"، الذي يعزو قوة القبيلة إلى رمزها المتمثل بتضافر رجالها الشبيه ب"سبيب" أو ضفيرة الحصان. والتشبيه الأخير للنسق الروائي عند الشبيب_ الضفيرة_ هو الأنسب والأقرب إلى طبيعة التنوع الروائي عنده، وطريقة كتابته، إذ يقرّبنا من صورة أو سيرة الروائي المرتحِل، غير المتأقلم، أو غير المقيم على نسق واحد. وبقدر انصرافنا عن الانحصار في مصطلح أو طريقة أو خاصيّة واحدة في رواية واحدة لذاتها، فإنّ الاستدلال بنسق الضفيرة يهدينا إلى ضرورة البحث والتأمل في السيرة الروائية الأخرى، أي تتبّع العادات الكتابية عند الروائي، المتعدد، والظاعن أو المرتحِل.
أذكرُ أنّ لقائي الأول بالروائيّ طه الشبيب، كان بصحبة الراحل محمود عبد الوهاب وكاظم الأحمدي، في أحد الملتقيات الأدبية، لعلّه "المربد" في البصرة أو بغداد. ويومها سأل محمود الشبيبَ عن طريقة كتابته رواياته، فقال الشبيب إنه يكتبها دفعة واحدة، وبقلم الحبر، ولا يراجعها أو يعدّل في أحداثها بعد إتمام كتابتها. كتمَ محمود تعجّبه من هذه الطريقة، لكنه صارحني بعد ذلك بوسواسه حول طريقة الشبيب في كتابة رواياته (دفعة واحدة وبقلم الحبر). عُرِف عن محمود حرصه الشديد في تدقيق قصصه التي يكتبها، ومراجعة مخطوطاتها مراراً، فلم يُنتِج بسبب هذا "الوسواس" الكتابي إلا عدداً قليلاً من القصص. ولا ينفرد محمود عبد الوهاب وحده بهذه العادة "الوسواسية"، بل أن قصاصين كثيرين من جيله اتصفوا بهذه الطريقة البطيئة في كتابة قصصهم، كما عُرِفوا بأصحاب المجموعة القصصية الواحدة، أمثال جاسم الجوي وعبد الرزاق رشيد وحمزة سلمان وعبد الملك نوري ونزار عباس وغيرهم. وقد نضيف إلى هؤلاء روائيين معروفين بَنَوا أبراجَهم وقلاعَهم على عدد محدود من الروايات مثل غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر.
مقارنة بأولئك "الوسواسيين، المتأقلمين"، سنعتبر طه الشبيب من الذين كسروا قاعدة التأقلم والإقامة في مشغل يشبه البرج أو القلعة، حتى أصبح من الذين يفضّلون محيط "الخيمة" المفتوح على فضاء لا حدود لأطرافه، وارتحال دائم لا إقامة لمكانه وحوادثه. وسيتوسع هذا المحيط حين ننقل "الخيمة" من مكانها الطبيعي إلى فضائها الإلكتروني، وتغدو آلية الإنتاج الروائي سريعة التواصل مع الحساسيات الخارقة للإيقاع المنتظم والعلاقات الروتينية في الإنتاج. وهنا نصل إلى أهمية أن يكون للكاتب الروائي مشغل يُوصف بالتشكل المتعدد والرحلة المتغيرة، كالخيمة بدل البرج أو القلعة (بالرغم من أنّ الشبيب بنى قصوراً شبيهة بالأبراج في روايته- وديعة أبرام- إلا أننا سنغادر تلك الأبراج في أعماله الأخرى التي تحتوي فضاء رمزياً ولغة متحوّلة وأشخاصاً افتراضيين، كالذين توفروا في روايته: الأبجدية الأولى، 1996) ولعله اقترب في بناء رواياته من النسق "الترابطي" الذي تتخذه الرواية الرقمية عماداً لها.
وربما يؤدي بنا تقريب مشغل طه الشبيب من شكل الخيمة، إلى تفضيل أشكال انتقالية مألوفة أخرى، ورصد رحلاته التي تمتد حتى روايته الأخيرة (توائم الرجل المسيَّب، 2025) التي يعود فيها الى مسقط رأسه (المسيَّب) بعد أن بدأها أولاً في المكان نفسه في رواية (إنّه الجراد). بعد اغتراب طويل، وتجارب عقلية وأسطورية متنوعة، يضعنا الروائي الشبيب إزاء مشغل تقترب صورته الأخيرة من صورة بيت أثري في مدينة فُراتية قديمة. إنّ رحلته الطويلة في كتابة الرواية تقترن بتاريخ طويل من انهيار الأبراج والممالك والقلاع الأسطورية - الرديف لانهيار السرديات الكبرى- التي هيمنت على مدننا العربية.
إنّنا اليوم إزاء مشغل روائيّ يسمح بإنتاج حرّ، مشيد في أجواء بنائية طليقة تشبه بناء الخيمة أو الجمجمة المتروكة على جانب طريق صحراوية، أو عشّ حَمام في ركن بيت في مدينة صغيرة، أو أيّ تشكيل طبيعيّ يؤشّر إلى ارتحال الكتابة الروائية، وتعدد أشكال الصراع فيها، دونما توقف أو انتهاء. سنلتقط رموزاً وألغازاً ولغات وحوارات في أثر الرحلة، تشير كلها إلى صراع لم ينتهِ بعد في سرديات طه الشبيب المرتحلة، المقتحمة مستقبلاً غير منظور أو غير متوقَع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*توسيع لملاحظات قُدّمت عن روايات طه الشبيب في جلسة رابطة مصطفى جمال الدين بالبصرة بتاريخ ١٨/٩/ ٢٠٢٥.