اخر الاخبار

لا بد قبل الدخول الى قراءة عنوان  رواية “طشاري” الوقوف على دلالة التسمية فيه حيث تشير إلى ما يعنيه الغلاف باعتباره العتبة الاولى التي تمارس تأثيرها على القارىء،ً فهو اول ما تطالعه عين المتلقي، وان المصمم والكاتب معا يحاولان استغلاله لايصال رسالة الكتاب ومضمونها، وتحفيز مخيلته لما يمتلكه من طاقة توصيلية وابلاغية مهمة، كما ان القارىء العادي يأتي الى الكتاب احيانا من خلال غلافه يحاوره في سبيل العثور على اشارة كشف اسراره وعلامة يهتدي بها قبل اقتنائه فهو (اول من يحقق التواصل مع القارىء قبل النص نفسه فهو الناطق بلسانه يقدم قراءة للنص وبالتالي يضع سمات النص وعلاماته وهويته) (حسن نجمي ، شعرية القضاء السردي ،بيروت،2000،ص22).

والغلاف على الرغم مما يحمله من عناصر وعلامات بصرية وتشكيلية ولسانية عديدة الا اننا سنحاول التركيز على العنوان بوصفه اول ما يلفت انتباه القارىء لبروزمكانه في الواجهة وهو بمعية الصورة يشكل عنصراً رئيساً عبر المعطيات المتوافرة فيه ، وذلك لما يملكه من طاقة تخيلية وانزياح دلالي على وفق ما يتبدى فيه من مواصفات، وهو في النهاية لا بد ان يتوافق مع مضمون الرواية.

هذا الاهتمام في صياغة العنوان لغوياً من قبل الكاتب وفنياً كرافيكياً من قبل المصمم لا يتم إلا على وفق رؤية متماسكة بين التأليف والتصميم، لما يمتلكانه من قدرات فنية ولغوية ،وكما ان العنوان يرسم افق المتخيل في النص السردي في اشكال واطوال مختلفة تتراوح بين التركيز الشديد وما بين الاطالة ، كما تتبدى في انواع  متنوعة فبعضها تطرح نفسها مباشرة واخرى تنحرف وتنزاح عن المعنى مما يولد معاني اخرى وقد يشير العنوان في أحيان كثيرة إلى شيء آخر غير مايظهر عليه، وهنا يتوجّب على المتلقي أن يفك ألغاز اللغة الرمزية التي يحتويها، ان عنوان رواية “طشاري”* التي تم ترشيحها عام 2014 لجائزة البوكر العربية ، تكتسي بخليط من الاصفر والاسود ليحققا هيمنة مع الصورة التي هي عنصر غرافيكي لا يقل أهمية عن النص، حيث ارتبطت بالرواية باشارات معبرة عن مضمونها، لتمثل صورة المرأة الطبيبة في الرواية التي تمثل جيلين جيل الام وردية وجيل ابنتها التي تهاجر الى كندا، ومن هنا فان الصورة جاءت لعرض الرموزالتي ترتبط بالمهنة ومتعلقة بالرؤية الكلية للرواية، وانها شكلياً تتمتع بحيز مكاني مهم كونها مستحوذة على مساحة الغلاف مما اسهم في تحقيق وظيفة اشهارية، و “طشاري” هنا في طوبوغرافيته بحروفه الغليضة وبلونه الاخضر متاخذاً حيزاً مرتفعاً في الغلاف ما ادى الى تكثيف حضوره، وان المفردة بما تمثله من استفزاز للقارىء خالقة توتراً داخل عملية التلقي،وجاعلة من القارىء منغمساً في فضاء التخيل، فالكاتبة تهب قارئها متعة الاكتشاف ليس في الحضور الواضح انما من خلال مراوغتها له ، فمن اجل الكشف واضاءة الاساليب التي توصله للمعنى الذي يمثله العنوان، في اعتقادي لا يمكن التحقق منه الا في ضوء قراءة متمعنة للرواية ليستطيع هذا القارىء في النهاية أن يبرهن على وجود علاقة متماسكة و روابط قويّة تجمع ما بين العنوان والمتن لا سيما ان النص بكل ما فيه من مضامين يكون مسنداً وان العنوان يكون مسند اليه ذلك لما يملكه من طبيعة مرجعية واحالية، يتم عبر الثيمة الاساسية ، واننا في تمعنا في عنوان الرواية طشاري سواء اكانت التسمية تمثل طلقة الصيد التي تتوزع في عدة اتجاهات او انه يرمز الى نثار الماء في الواقع  فاننا نجد ان هناك تقابلات ما بين التضاد المجرد في مقابل العيني المجسد، فهو في السياق هذا ليس مجسداً وظاهرياً انما هو مجسد ولكن ظاهريا بالقوة لانه غائب، وذلك لانه لا يتناثر في الواقع الخارجي ولا على مساحة الغلاف بل في فضاء نسميه خيالاً مشفراً سيميائيا في متن الرواية، فتحوّلت هذه العبارة من مفردة تستخدم في جدول استبدالي إلى علامة ذات مدلول مستوحى من سياق النص فصار الطشار الذي يحيل الى التشتت والتفرق يوحي بقصدية عالية في الاختيار وذلك عبر الصاق المرمز طشار الى الكل الشتات وياتي النص ليؤكد هذه الثيمة التي غيرت تعينها إلى تضمين أعمق، اضافة الى ان هذا العنوان أبرز ما يميزه هو التضاد فهو يجمع ما بين متناقضين من كونه نصا شديد الاختزال والايجاز متكون من كلمة واحدة الا انه مع ذلك يتمتع بحيز مكاني ليس محدوداً على مساحة الغلاف، كما انه عنصراً مؤثراً بحكم مدى قوة ما يحيل اليه ،فهو واسع في المعنى كونه تعبيراً يمتاز بالاتساع ودلالته التي تحيل الى قابلية الانتشار والتشظي وهكذا تمكنت الكلمة رغم ايجازها من غزو الفضاء الكلي للرواية باسطة سلطانها عليها ، وانه ما بين المحدودية والاتساع في المساحة ينهض المعنى ، وبهذا فان اختيار الكاتبة عنوان طشاري ليس اعتباطاً وانما جاء نصا مختزلاً ومكثفاً ومختصراً في الوقت ذاته مليء بالدلالات والمعاني يرتبط في علاقة تكامليه بالنص الداخلي ، وانها باختيارها هذا العنوان الذي يحمل معنى الانتشار والتشظي لتسقطه على كامل الرواية ولتحيله الى نواتها الدلالية المنشطرة الى اجزاء متعددة والمتوزعة في نسيج بناء مكون من مجموعة من الصور والشخصيات التي تطرح فيها الكاتبة كارثة الشتات والتشرذم والتقصي للعراقيين على مختلف طوائفهم بعد القتل والدم ، من حيث غياب الامن  في  بداية سقوط نظام الحكم2003 وانتعاش الطائفية، وكحالة يفرضها واقع راهن و في ظروف بالغة التعقيد، ومن اجل حماية انفسهم  اضطروا  إلى مغادرة موطنهم، ، متبنين خيار الهجرة ومعرضين انفسهم  للشتات، رواية تدين الاحتلالَ الأمريكي للعراق واتباعه، من خلال طرح اشكالية عالية للطبيبة وردية وهي من الاسر المسيحية التي عملت في الديوانية  في الخمسينات وابناءها الثلاثة المشتتين في بقاع متباعدة، وان هذا الشتات لا يلم شمل أعضاء العائلة في شكلها الموسع في خاتمة المطاف الا عبر واقع افتراضي غير حقيقي وذلك عبر مقبرة الكترونية على شبكة الانترنيت مبنية بمقاييس وآليات مستمدة من ابتكار حفيد العائلة إسكندر الذي اراد فيها الغاء المسافات بان يدفن فيها موتى العائلة فبعد ان فرقتهم الحياة يجمعهم الموت. ان هذا الفعل يغدو دافعاً للتشاؤم وليس للتفاؤل، وخاصة ان الموت هو من جمعهم وليست الحياة، وفي اعتقادي ايضا ان هذا هو الهاجس والهم الاساسي للكاتبة دائما.

ـــــــــــــــــــــــ

*طشاري/ رواية انعام كه جي. اصدار دار الجديد- بيروت.

عرض مقالات: