اخر الاخبار

حين تنكفئ الأرواح وتغترب النفوس ويغيب عنها الجمال، تتجدد الآمال مع اطلالة الربيع بمباهجه الفاتنة وتغرق الأرض بأنفاسه المترفة، ولذة البهجة حين تولد من رحم المتاعب والهموم.

في الحادي والثلاثين من آذار 1934 كانت ولادة غنية لأفق غيّر وجه عراقنا، عندما تأسس حزب الشيوعيين في خضم الصراعات المضطرمة بين الطبقات الاجتماعية التي كانت قد بدأت صيرورتها غداة تأسيس دولتنا الحديثة عام 1920.

مع نشوء الدولة الحديثة وإسهام المستعمر في خلق طبقة الإقطاع التي تخطت سلوكيات العلاقات القائمة أصلا بين شيوخ العشائر وأبناءها، فحولت شيوخ العشائر من أوضاعهم الاجتماعية الأبوية في العشيرة إلى إقطاعيين يسلبون رويدا رويدا حقوق الفلاحين وأصحاب الأراضي من أبناء عشائرهم، وتحويلها بأسمائهم وتحويل هؤلاء الفلاحين من أصحاب أراضي إلى فلاحين لدى الشيوخ.

في هذه البيئة التي نضجت فيها سلطة الإقطاعيين واستقرت أوضاعهم الفوقية على أبناء عشائرهم مستفيدة من الدعم الذي تحظى به من سلطة بغداد وسلطات الألوية (المحافظات) والأقضية، وبذات الوقت باشر المستعمر تعزيز سلطة كبار التجار والعسكر والصناعيين على حساب الطبقة العاملة التي كانت تخسر جهودها ووقتها لحساب هؤلاء التجار وكبار الملاك.

في هذه الظروف، كان المخاض العسير لولادة فكر يتماهى مع آمال وآلام الطبقة العاملة والفلاحين والعاطلين عن العمل.  كان هذا الفكر قد استطاع الوصول إلى طيف واسع من الشعب العراقي نظرا لقربه الشديد من الإنسان والفهم العميق لمتطلباته والوسائل المفترضة لتحقيق أمانيه. ولقد تبلور هذا الفكر في حزب للطبقة العاملة والفلاحين والكادحين، كما استقطب أعدادا كبيرة من المثقفين ومن يسمون بأبناء الطبقة الوسطى، ما جعله يرتقي إلى وصف (حزب الجماهير) دون منافس.

 ومع أن العديد من الأحزاب والجمعيات تأسست وعاصرت نشوء الحزب الشيوعي العراقي، إلا أنها كانت أحزابا وجمعيات لا تنتمي إلى الناس بل هي مؤسسات شكلتها النخبة الفكرية التي لم تستطع التغطية أو تعويض ما بناه هذا الحزب العظيم.

ولقد تابع الراحل شمران الياسري (أبوگاطع) في رباعيته “الزناد” مراحل بناء دولتنا العراقية بعد انتهاء الصراع مع الإنجليز وغلبة المحتل على ثوار العشرين ونفي قادتهم، ووقف على بدايات نشوء الإقطاع وتحول العلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج مستندة إلى الدعم الذي قدمه الحكم المباشر للمحتل أو الحكم الوطني الذي تشكل صوريا في العراق.

وكان الرمز الذي استخدمه شمران الياسري هو (المضخة) التي فرض الإنجليز على الشيخ أن يشتريها بمبلغ الألف روبية التي منحها له.

لقد فهم الشيوعي شمران والجيل الذي سبقه من المؤسسين، أن القضية لا ترتبط بأخلاق الشيوخ والإقطاعيين وبعواطفهم، بل بالمضامين الاجتماعية التي أرادها المحتل وتابعوه من الحكام، بما يوصل المجتمع إلى طبقات واضحة الحدود ليتسنى حكم العراق بأدوات تابعة له وبالنيابة عنه.

فقد كان أولاد الإقطاعيين وكبار الملاك هم المرشحون دائما للوظائف العسكرية والمدنية والقضاء، فيما كانت ممنوعة بشكل أو آخر على الطبقة العريضة من الشعب.

في هذه الأجواء التي رسمتها الرواية وهي التي سردت ما كان في الواقع، تأسس الحزب الشيوعي العراقي وقاد من ساعته مسيرة الشعب وحيدا أو متحالفا مع قوى وطنية أخرى، تم وصفها بأنها من البرجوازية الوطنية التي كانت قادرة على تلمس معاناة الناس والوقوف إلى جانبهم.

في كل آذار تسطع شمس الحرية التي ما انفكت تنير ذاكرة الوطن والناس بنضالات الرعيل الأول والأجيال التي أعقبته من قادة الفكر والبناء الاجتماعي، والذي لم يزل يحرض على نهضة العراق ونبذ ما وصلت إليه حالة الدولة والمجتمع من ارتباك في النظرة إلى التنمية والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي.

وفي كل آذار لا يحتفل الشيوعيون وحدهم بمجد ميلاد حزبهم، بل يحتفل معهم الملايين مستذكرين هذا النبل والطهر والعفة الذي طبع مسيرتهم المحناة بالدم والعذاب وآثار الاصفاد التي أدمت معاصمهم وهم يدافعون عن حرية الشعب.

ولقد تشرفت الرواية العراقية والعربية بإنتاج رواية أبوگاطع التي أسهمت في وصف المسيرة المظفرة لشعبنا العراقي منذ عام 1920 في صراعه غير المتكافئ مع الاحتلال الإنجليزي، ومع أنظمة الحكم التي شكلها والتي طحنت دون رحمة الشعب وقيدت قدراته، حتى قامت ثورة 1958 المجيدة التي وقف الحزب الشيوعي إلى جانبها فتحققت في زمنها القصير العديد من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ووصفت الرواية أيضا الانتكاسة المريرة للثورة وارتباك قيادتها حتى تمكنت الرجعية المقيتة من القضاء عليها وإعادة وطننا إلى الخلف.