اخر الاخبار

في سبعينيات القرن الماضي، نُسبت للعمل في هيئة حزبية، ضّمت، من بين رفاق آخرين، رفيقين منحدرين من “طبقتين” مختلفتين. كان الأول (أبو سمير) متعلماً وغنياً يسكن في بيت حديث، نجتمع فيه حول طاولة فخمة، ونتناول في اجتماعاتنا أشهى المأكولات. أما الثاني (أبو علي) فكان عاملاً معدماً، يستأجر غرفة في حي فقير، نجتمع في زاوية منها، متحّلقين حول مدفأة صدئة، فيما كانت أم علي تلتف بعباءتها قابعة في الزاوية الأخرى، تعّد للمجتمعين كؤوس الشاي وخبزاً بالكراث. انتبه سكرتير الهيئة يوماً لهذا “الاستقطاب”، وطلب مني أن أفسر الأمر لأبي علي، فكانت لي معه سهرة بإحدى المقاهي، شحذت فيها كل تثاقفي لأتغلب على قلقي. لكن رفيقي العامل أدرك مغزى حديثي وسارع لإزاحة الحرج عني قائلاً بلهجته الجنوبية (إطمأن يارفيق، انه كلما نجتمع إبيت ابو سمير، أگول لروحي، عفية فكر اللي يطب لهيجي بيوت).

لم أتعلم من رفيقي العامل (أبو علي) هذه الثقة بالنفس فحسب، بل تعلمت أيضاً بأن الحكمة والثقافة ليستا دوماً نتاج الشهادات الأكاديمية المؤطرة بماء الذهب، أو رطانة اللغة وفخامتها، أومعرفة أسماء سمفونيات بيتهون وموسيقى موزارت، بقدر كونها نتاج وضوح في الرؤية ودأبا على التعلم واحتراما لحرية العقل من أية سلطة، والتحرر من عبودية السائد والمضي نحو فضاء العقل النقدي، والكف عن رؤية الواقع والمتغيرات بعدسات مسبقة الصنع، وأخيراً الرغبة المطلقة بحياة أجمل وبانسان حرّ و (أبن أوادم).

وعلى مر السنين، تعلمت من تاريخ الشغيلة أيضاً، كيف بقيت صفحات كفاحها الباسل، من أجل الخلاص من الاستغلال وتحسين شروط العمل وبيئته وأجوره، مشرقة للجميع في كل مكان وعلى مدى القرنين الماضيين. وتعلمت من دروس اقتصادها أن هذه الطبقة لا تنتج الخيرات المادية فحسب، بل وتصنع فائض القيمة الذي يسرقه الرأسماليون، خالقين علاقة استعباد العمل المأجور لهم، حتى وإن تلفعت تلك العبودية بحريتنا على بيع قوة عملنا لمن نشاء. ومن دروسها السياسية تعلمت بأن هذه الطبقة لن تفقد في نضالها شيئاً سوى أغلالها، وأن عليها، كحفارة قبر الرأسمالية، أن تنقل البشرية من مجتمع الضرورة إلى مجتمع الحرية.

وفي دروس الجغرافية سطعت لي شموس الشغيلة وهي تسقط سجن الباستيل الرهيب وتحطم جدران قصر الشتاء القيصري وترفع الراية الحمراء على قبة الرايخ الهتلري وتقهر أساطيل العم سام على شواطيء كوبا وتمرغ بالوحل أنفه في غابات فيتنام. وفي دروس التطور الاجتماعي، تعلمت بأن تحديث المجتمعات يرتبط بقدرة الشغيلة على تغيير ميزان القوى لصالحها لتحقق حرية الناس وتضمن توزيعاً عادلاً للثروة عليهم. وفي عالم الثقافة والإبداع تعلمت كيف احتلت هموم الشغيلة فضاء المخيلة فتحولت لناطق حي ينير في العتمة الدرب لعالم ذي روح، فكان هناك غوركي وبيكاسو واراغون وناظم حكمت ونيرودا وماركيز وغيرهم.

ومن نتائج تفاعل كفاح الشغيلة هذا مع الواقع، تعلمنا كيف ننتبه للمتغيرات، نفهمها، نفسرها، ونشحذ قدراتنا على استثمارها أو تغييرها دفعة واحدة او عبر تراكم متواصل، فنما وعينا وتوفرت لنا القدرة على التقييم والتأثير والحرية في التعبير عن ذلك.

ما تعلمناه من الشغيلة التي عشنا وكبرنا في صفوفها، كان أمضى من كل أشكال الوعي الذي نهلناه من القراءة، ولهذا ليس هناك من معنى لعبارة “أنا لا أعرف لأني مجرد عامل عادي”، التي يرددها البعض توهماً أو تواضعاً، فأنت لست كذلك ياصاحبي، لأنك من علمتنا وأحسنت تعليمنا.

شكراً لك يا معلمي، بوركت، وبورك عيدك الأممي المجيد.

عرض مقالات: