اخر الاخبار

رواية “ أحببت حماراً” للروائية ( رغد السهيل) الصادرة طبعتها الثانية هذا العام ٢٠٢٣ ضمن منشورات إتحاد الادباء في العراق ، رواية فنطازية بأمتياز، فضلاً عن كونها رواية ميتاسردية، تقدم فيها الأحداث والمرويات من وجهة نظر بطلتها وراويتها المخبولة التي تعلن منذ البداية، وعبر توظيف ضمير المتكلم الأوتو بيوغرافي (أنا) عن أنها تحب حماراً:

“ أحببت حماراً :هذا ما قلته للجنة التحقيقية، وما أكدته لهم في مستشفى الأمراض العقلية، أيضاً وهو كل الحقيقة أيضاً، لم أكذب ولكن .. “ (ص 9)

والروائية تنجح الى حد كبير، في تقديم لغة هذيانية، ينفصل فيها الدال عن المدلول، بلغة سلسلة مقروءة، يبدو فيها السرد أحياناً مثل سيل متدافع من الدوال العائمة.

والبطلة، وهي تجوب شوارع بغداد بحثاً عن الحمار الذي أحبته، تسجل صفحات مؤلمة من الواقع العراقي في زمن الدكتاتورية صدام حسين، وما بعدها، وخاصة بعد تصاعد عنف العصابات الارهابية، وتفاقم الصراع الطائفي، وتعتمد هنا على أسلوب المسح الافقي البانورامي لمشهد المدينة وحركتها وكائناتها.

 والحمار الذي أحبته البطلة، هو حمار ( زكي) ، بائع الخضار الذي كان ينقل عليه الخضروات والفواكه الى زبائنه، ومنهم بطلة الرواية ذاتها، التي كانت توليه، عند مجيئه، اهتماماً خاصاً، لكنه فجأة فُقد، وبقي هائماً على وجهه بعد مقتل صاحبه (زكي) بثلاث رصاصات طائشة، في زمن الصراع الطائفي، مما دفع البطلة للبحث عنه في كل مكان.  لكنها خلال ذلك لم تقتصر على الحبكة الرئيسة للبحث عن الحمار المفقود الذي أحبته، بل انفتحت على عدد من الحبكات والمرويات والشخصيات الروائية. كما نكتشف أيضاً وجود “ مخطوطة” يسلمها بائع الخضروات زكي للبطلة.  وتكشف المخطوطة  عن ملمح يعمق المنحى الميتا سردي للرواية، كما سنكتشف لاحقاً ملامح ميتاسردية أخرى منها قصدية الكتابة الروائية وحضور القارئ والمروي له . ومن خلال عملية الإبطاء تؤجل المؤلفة الاعلان عن اسم كاتب المخطوطة حتى الصفحة الأخيرة من الرواية حيث نفاجأ أن كاتبة المخطوطة هي شخصية “الخاتون” (ص 279 )

وشخصية “الخاتون” ،هي الكاتبة المفترضة للمخطوطة داخل  الرواية، وربما للرواية كلها، بوصفها مخطوطة، شخصية غامضة لا تظهر الا نادراً، عندما تطرق الباب للمرة الاولى على البطلة تعلن انها الخاتون، ثم تستدير وتغيب سريعاً دون أن تمنحها أية فرصة للمزيد من الاستفسار. (ص11)

وتمنح المؤلفة دوراً للقارئ، عندما تخاطبه بأن لا يسخر من أقوالها لأنها تحب حماراً:

“ أيها القارئ، توقف عن الضحك رجاءً.” (ص 13)  

وتدعو البطلة القارئ لمواصلة التركيز ليكتشف بؤرة المركز، “ وربما نقض المركز، خارج الفحولة، داخل القطب البارد.” (ص 13 )

وهنا إحالة الى النزعة النسوية ،”القطب السالب”، ومحاولة الانسلاخ من المنظور الذكوري مع إحالة الى العتبة النصية الأولى المقتبسة من الروائية فيرجينيا وولف:

“ مستقبل الرواية يعتمد على المدى الذي يمكن فيه تعليم الرجال على تحمل الخطاب الحر لدى النساء.” (ص5 )

وتتكرر لازمة الدفاع عن النسوية بأشكال مختلفة على مستوى الرواية، حتى ليمكن أن نعد هذه، الرواية مكتوبة من زاوية نظر نسوية جريئة ٠

كما أن استنجاد البطلة بالقارئ يتكرر:

“ ولن أهتم لكل ما سيحدث لأني سأستمد قوتي منك، ومن سواك أنت أيها القارئ.” (ص 25 )

وتكشف المؤلفة عن فلسفتها في السرد وهي تستحضر صورة القارئ في ذهنها:

“ قد يطالبني القارئ بالشرح، فأقول له: على الروائي الا يفقس كل البيضات التي في السلة مقدماً.” (ص 32)

وهذه اشارة تكشف عن بعض أسرار صنعة الرواية السردية، فهي “تقطر” الحقائق والمعلومات قطرة قطرة،عن طريق تقنية الابطاء، ولا تكشف عنها دفعةً واحدةً، وذلك لشد انتباه القارئ، وتحفيزه على التفكير والمساءلة، ولإبقاء الحدث السردي مؤجلاً، الى اللحظة التي تتطلب كشفه.

وتعير المؤلفة الوصف إهتماماً خاصاً، مثلما نجد اهتمامها بوصف الحمار الذي أحبته:

“ إنه حمار ناصع البياض، مدلل، أصيل له مميزاته وطهارته الروحية والجسدية، كان صاحبه المرحوم ينظفه كل يوم ويعطره باطيب أنواع البخور.” (ص 14 )

وتتحدث البطلة عن مزايا حمارها الذي أحبته:

“ عندما تعرف مزايا حماري ستحبه، ولعلي سأشعر بالغيرة لو فضلك عليّ، لكنه لن يخون العهد. فمن ميزاته أنه يغار على إناثه.” (ص 17 )

وخلال جولة البطلة الأفقية في فضاء مدينة بغداد وأزقتها، تتحسر على ما آلت إليه المدينة من خراب وتدمير، وتبدو وكأنها تكتب مرثاة لبغداد، مثلما فعلت إحدى القصائد السومرية التي تحدثت عما أصاب مدينة (لكش) وكنوزها، والتي اعتمدتها المؤلفة عتبة نصية دالة:

“ واحسرتاه على ما أصاب لكش وكنوزها

ما أشد ما يعاني الاطفال من بؤسٍ

أي مدينتي متى تستبدلين بوحشتك أنساً.” (ص 7)

وتنجح الروائية الى حد كبير في صياغة لغوية هذيانية، مفككة، وغير مترابطة، تعبر عن الحالة العصابية لبطلة الرواية المتهمة بالخبل. فهي تنسج قصصاً ومرويات خيالية منها رغبتها في الطيران الى القمر” لأنني أريد اصطحاب بابا نوئيل والحمار، وأخشى أن نتيه في القمر لو انتعلنا أحذيتهم المجنحة. “ (ص 18 )

ويساهم هذا السرد الهذياني في ادانة دكتاتورية صدام حسين، وهي تتحدث عن وقوف السيارات في طوابير مصطفة في شارع القادسية:

“ أرجو أن تركز أيها القارئ، قلت لك شارع القادسية، فِلِمَ أسمعك تقول معركة القادسية؟ تلك معركة دفعنا تعويضاتها سابقاً ولنا اليوم بطولات جديدة، كل يوم ننجب معركة.” (ص 27 )

والمؤلفة تدين مظاهر العنف والقتل والتمييز الطائفي على الهوية كافة ، في زمني النظام الدكتاتوري، وما تسميه بالنظام  الديمقراطي، وتحسد الحمار لأن هويته واضحة لا خلاف عليها بعكس البشر.

أما على مستوى تشكل البنية السردية، فنلاحظ أن المخطوطة تشكل متناً سردياً ثانياً، يضاف الى المتن السردي الأصلي الذي تتحكم فيه بطلة الرواية التي أمضت حياتها تبحث عن الحمار الذي أحبته. والمخطوطة في هذه الرواية متشظية،وتظهر أحياناً تحت إسم “الملف” او “ورقة” وتتداخل أحياناً مع سرد البطلة التي اسمها أمل، وربما الدكتورة أمل، كما علمنا من حوارها مع (ليلى) ،وهو ما يجعلنا نعتقد بتماهي شخصيتي المؤلفةد.  رغد السهيل والساردة المخبولة.

أما كاتبة المخطوطة فشخصية غامضة تدعى (الخاتون)، تظهر فجأة وتختفي من دون أن تترك وراءها أثراً محسوساً، وكأنها شبح أو خيال هارب.

 وكانت المرة الأولى التي تعرفت فيها البطلة على المخطوطة من خلال بائع الخضار المغدور (زكي) الذي أقبل عليها أحد الأيام بصحبة حماره وعرض عليها ملفاً وجده على التراب، قرب بسطة الخضار : “ دكتورة، صباح الخير هل سقط منك هذا الملف، عثرت عليه قرب بسطتي يوم أمس.” (ص 32)

ولفت انتباه البطلة الى وجود عبارة على غلاف الملف تقول:

“ لا أمتلك غرفة خاصة لأرتب هذا الملف في الرواية كما تنصح فرجينا وولف لذا فهو ملك لأي امرأة تكتب في غرفة خاصة .” (ص 32)

ونلاحظ هنا إحالة الى رواية فرجينا وولف الموسومة “غرفتها الخاصة” الصادرة عام 1929، وهي إحالة ذات دلالة تتعلق بالموقف النسوي في الكتابة، واشارة الى أن البطلة والراوية تمتلك بالتأكيد غرفتها الخاصة للكتابة.

أما أول ظهور شبحي لمؤلفة المخطوطة المكناة بالخاتون فكان عندما طرقت بابها حسناء “ كفلقة البدر، بيضاء تبرق. “، وقالت لها : “ لا تجزعي.. أنا الخاتون.” (ص11) ثم إختفت مرة أخرى دون أن تتيح الفرصة للبطلة لتستفسر عنها، عن إسمها وهدفها.

لكننا نتيقن في نهاية الرواية أن “ الخاتون” هذه هي كاتبة المخوطة وربما الرواية ذاتها، وذلك عن طريق الرسالة التي وجهتها الخاتون الى بطلة الرواية، الدكتورة أمل، وشكرتها فيها على روايتها “أحببت حماراً”، ولأنها لا تجيد السرد فقد كانت مزمعة على تسليم المخطوطة الى أية كاتبة لها غرفتها الخاصة.” ( ص 279 ). والاشارة الى رواية فرجينا وولف المذكورة الموسومة “غرفة خاصة بأحدهم”  A Room of Ones Ownلها دلالة كبيرة، إذْ عدت هذه الرواية آنذاك بمثابة بيان أو”مانيفستو” في الدفاع عن قضية النسوية. كما أن الاشارة الى الروائية فرجينا وولف يحمل دلالة أخرى تتعلق بحالة الخبل التي تعاني منها بطلة رواية “أحببت حماراً”، والحالة العصابية المتدهورة للروائية فرجينا وولف، والتي دفعتها في النهاية الى الانتحار غرقاً في النهر.

وكما سبق وأن نوهت فإن المظهر السردي الأساسي في رواية “أحببت حماراً” هو انتمائها الى منحى الرواية الميتا سردية بسبب عدة تجليات، في مقدمتها وجود المخطوطة التي كتبتها “الخاتون” والتي تشظت داخل الرواية، ومنها قصدية فعل الكتابة، ومخاطبة القارئ. وفي تلازم بين قصدية الكتابة وحضور القارئ تقول المؤلفة:

“ أيها القارئ توقف عن الضحك رجاءً.. انها قصة أو رواية  أو حدث ما، لم يحدث وربما حدث على هذه الصفحات، لا أعرف الى الآن الشكل الفني، ربما سيشبه شكل بغداد الحديث، سأواصل السرد، عليك التركيز لتكتشف بؤرة السرد، وربما نقض المركز، خارج الفحولة، داخل القطب البارد.” (ص13) وتعلن المؤلفة، أو الراوية انها قد تخرج عن النص، بسبب لغتها الهذيانية المفككة:

“ ربما أهذي أحياناً فأخرج عن النص، كما خرجت عن القطيع.” (ص 13)

هذه الرواية  تمتلك الكثير من السحر والرشاقة، وقد كتبت بلغة أخاذة وجاذبة جعلتها سلسة القراءة، وقريبة من قلب القارئ.

رواية “أحببت حماراً” رواية متميزة، ومكتوبة بحرفية سردية عالية ، وبذا أغنت الرصيد الابداعي للروائية والقاصة رغد السهيل وللرواية العراقية كذلك.

عرض مقالات: