سُئل مرة ألكسي تولستوي، الكاتب الروائي الكبير، عن سبب حرصه على الكتابة للأطفال، فأجاب: "أنا طفل في الستين"! فمفهوم الشيخوخة بالنسبة له يشتمل كما يبدو على ما هو أكثر من مجرد تداعي الجسد وتعب المخ، بل يتضمن بناء معقدا للموقف من الحياة. فليس محتما أن يكون شيخا من هو في الستين أو في السبعين فيُعد عجوزا ، بل أن ابن الخامسة والثلاثين قد يشيخ ويعجز عن تحقيق أهداف حيوية، حين يتوقف عند حد معين من قدراته ولا يتغير.
مفهوم الكِبر نسبي يغاير الصورة التقليدية في مجتمعاتنا العربية. فعندنا مثلا يُقال "عند الأربعين تُحد له السكين". ولا ادري لماذا يضرب هذا المثل لسن النضوج والتعقل؟ّ!
وكثير منا يرتعب لرؤية أول شعرة بيضاء تغزو رأسه، لكنه يستسلم بالتالي مرددا بيت الشعر " إن شابت الذوائب مني / فالليالي تزينها الأقمار". وقد سخر برنادشو مرة من كبار السن قائلا" احذروا الشيوخ من الرجال، فما عاد عندهم ما يخشون عليه" موضحا أنهم يسعون دائما لاجتراح أمجاد وبطولات جديدة يُحسدون عليها!
آخرون لا يحفلون بالتقدم في السن ويرونه "خصب للسلف ونضج كريم في ضوء الغسق، رغم كونه يشكل أحيانا الوحدة والبرودة والبؤس" ..
قد نتذمر نعم، لكن لا نستسلم، فلا يحَق لنا ذلك! قد يخذلنا الجسم في حركة الزمان، وقد تأخذ منا الحياة عنوة ما منحته لنا يوما بسخاء، وعن رضا نوعا ما يمكن قبول هزائم الكِبر، لكن على ألا نتقبلها مهزومين تماما، بل يمكن تلافي الهزيمة كما يفعل ربّان السفينة حين تجنح سفينته ويتجاوز محنته بهدوء ورزانة!، ومثلما كتب الشاعر الفرنسي فونتين " عش ودع سواك يعيش، فالكِبر يجعل الإنسان متسامحا رقيقا، بل يصير أحيانا مثل المريض طيّعا!".
في الكِبر نشعر أحيانا بعناد مفرط، وفي مرّات نشعر ببراءة طفولة نحسد عليها الشباب أيما حسد! وقد يتشبث الكثيرون تشبثا بائسا وغبيا، بحثا عن عشبة الخلود، ويترددون على عدة أطباء في آن واحد، خاضعين لإغراءات شتى من وسائل الإعلام بالبحث عما يطيل العمر، ويديم الشباب، من علاجات وأدوية. في حين يركز البعض على ما تبقى من عمره في سن التقاعد، دونما شعور بالإهمال أو التجاهل، مثلما قال مرة الراحل الدكتور علي جواد الطاهر: " في سن التقاعد بدأت حياتي العقلية". إذ واصل إبداعه في الكتابة والتأليف والترجمة، حتى زادت كتبه ومخطوطاته على الخمسين .. فالفن هنا كان دافعا مُرَّكزا سَهَّل وجوده ، وأقصاه عن الاستسلام.
وفي مرة قال قائد الأوركسترا الأوبرالية توسكانين: "نحن ملوك على أعمارنا، فهل نستطيع الحفاظ على هذه المملكة"؟
من جانب آخر لابد لنا من مواجهة حقائق كارثية، لا تجعلنا ملوكا ولا حتى خدما، عندما تصبح أعمارنا رهينة كبسة زر صاروخ نووي بقرار من سياسي مجنون، يوقد في العالم جحيما يحرق الأخضر واليابس !