"الدعابات" التي أطلقها ترامب وبعض مساعديه، كالتعبير عن رغبته في أن يخلف البابا فرانسيس وأن يشتري بالقوة غزة وغرينلاند، والتي استُقبلت بلاأبالية وبشيء من السخرية، جعلت الكثيرين يتذكرون بقلق رواية توماس مان (ماريو والساحر)، والتي جسّد فيها قدرة الساحر تشيبولا، على تنويم جمهور استهزأ بألاعيبه واحتقره، قبل أن يتمكن الشاب ماريو من قتله وإيقاظ الناس من عبوديته. كان ذلك أيام صعود النازية في المانيا، حين تم ازدراء الديمقراطية والعدالة، واسُتخدمت الشرعية البرجوازية لشرعنة الإرهاب، وبُنيت الميليشيات خارج إطار الدولة لفرض الرأي الواحد وتخوين المختلفين وتمجيد القائد الأوحد وتقديس الاستبداد كمنقذ لروح الأمة، ويوم تجاهل الكثيرون مخاطر ما جرى، فاستفحل وكلّف الخلاص منه حياة 52 مليون إنسان والكثير من الخراب والدمار، حتى صار يوم سقوطه في 9 أيار عام 1945 يوماً لانتصار البشرية على البربرية المعاصرة.
إن النمو السريع الذي يحققه اليمين الاستبدادي الرجعي وبعض فصائله الأبشع والتي تتجلى بقوى الفاشية الجديدة، يتطلب الكثير من التمعن، لتعزيز مستلزمات التصدي ووأد الكارثة قبل أن تتكرر. ففاشية اليوم، النتاج الأخطر للعولمة المتوحشة، تمثل تراجعاً خطيراً عن اللعبة الديمقراطية، وشرعنة للعنف في مجرى الصراع الطبقي، وتحويلاً للدول القوية إلى تابع ذليل للشركات الإحتكارية، واستخداماً تعسفياً للقانون الدولي من أجل إستعباد الشعوب وتلويث البيئة ونشر البؤس في كل مكان. ولنا في آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية شاهد على ما ترتكبه إدارة ترامب وحليفاتها في إيطاليا والأرجنتين وإسرائيل وغيرها من خروقات مدمرة للقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان، التي كانت نتاجا للنصر في 9 آيار.
كما أن من الشواهد على ما نقول سعي العولمة المتوحشة كطور متقدم من الإمبريالية، لتغيير دور الدولة الوطنية، وتعميم الهيمنة الرأسمالية في جميع مناحي الحياة، في ظل اشتداد التفاوت الطبقي داخل مجتمعاتها وبينها وبين الدول التابعة، وفي ظل سباق التسلح وتضارب المصالح وحروب الإنابة، والضعف الذي تسببه المنافسة والذي قد يدفعها إلى اللجوء إلى الفاشية، والتخلي المخزي عن "قيم" الديمقراطية البرجوازية في حماية حرية التعبير والاختلاف والحق في المعلومة. ولا بد أن لا نغفل هنا الدور الذي يلعبه تدني شعبية يسار الوسط والوسط واليمين المعتدل في ابتعاد الناخبين وتحولهم إلى كتل ضعيفة يمكن أن تُسمى بالشعب الإفتراضي الذي يسهل على الفاشية إغراؤه، لاسيما في ظل العلاقة التكافلية بين الليبرالية الجديدة والفاشية.
وإذ يحتفل كل الأحرار بالعيد الثمانين للانتصار على الفاشية بعد أيام، فإنهم لا يستذكرون البطولات التي سطرها ملايين الجنود والفدائيون الشيوعيون والديمقراطيون المنضوون في الجيش الأحمر وتحت رايات المقاومة، ولا تضحيات رجال العمل السري وفي طليعتهم الشيوعيون في أرجاء العالم، وهم يناصرون المقاومة بكل ما قدروا عليه فحسب، بل ويرفعون الصوت عالياً بكلمة وفاء للمأثرة التي اجترحتها الشعوب السوفيتية وبقيادة حزبها الشيوعي والتضحيات التي فاقت 20 مليون قتيل و17 مليون معوق وتدمير 32 ألف منشأة صناعية وحوالي 65 ألف كيلومتر من السكك الحديدية. فكلمة الوفاء هذه ينبغي أن تسبق قراءة الواقع على ضوء تجارب تلك الأيام الصعبة، وتكشف دور البلد الذي ولد من رحم ثورة أكتوبر، في الدفاع عن الإنسانية، خاصة في ظل أبشع حملة تُشن منذ سنين لتشويه التاريخ وتقزيم الثقل الذي مثله كفاحه في الصراع مع الإمبريالية، وفي ظل المساعي الخبيثة لاستغلال بعض الخطايا والأخطاء لتصوير الصراع بين الظلم والعبودية وبين الحرية والعيش الرغيد وكأنه صراع بين الشمولية ومناهضيها.