اخر الاخبار

يمثل تنامي الغلو في شعارات اليمين على المستوى العالمي وتخوينه للتعددية الثقافية واستخدامه العنف لفرض آرائه، تغييرًا مقلقًا في نظرته للاستبداد واستعداده للتعايش معه، حتى لو اتخذ شكلًا فاشيًا مكشوفًا أو مقنّعًا، وهو تطور بات من الأهمية بمكان رصده ومتابعة أبعاده وتمظهراته.

إن إنكار هذا اليمين لعلاقته بالفاشية، لا يلغي حقيقة بقائه في الجوهر أمينًا على تقاليدها، سواء في تبني الأفكار القومية والدينية المتطرفة، أو في ازدراء الديمقراطية والعدالة، أو في معاداة الاشتراكية وبعض المفاهيم الليبرالية، أو في استغلال القيم الروحية لمنح العنف "ضد المختلفين" شيئًا من الشرعية، أو في خلق بدائل للقمع القانوني تتحكم بها قوى غير خاضعة للتداول السلمي للسلطة، وحديثًا في ترويجه لنظرة "جديدة" عن العالم، تسعى لإيهام الفرد بأنه ضحية لقوى لا يستطيع السيطرة عليها ولأشخاص يتمتعون بمزايا لا يستحقونها.

وإذ تبدو سياسات هذا اليمين بعيدة عن التعسف، لأنها تُظهر قدرًا معينًا من المرونة مع الناس، وتتسامح مع انتقاداتهم وتسلط الضوء على الفساد والبيروقراطية، فإن مؤشرات كثيرة تكشف حقيقة ممارساته القمعية، التي يسعى عبرها لإجهاض النضال ضد عدم المساواة والفقر والاستغلال وانعدام الأمن، ومن أجل تغييب وعي الخائفين من الوقوع أسرى الذل الاجتماعي، طبقيًا كان أم قوميًا أم طائفيًا، حتى لا يجدوا غيره ملاذًا للحفاظ على كرامتهم ومنحهم الدفء والانتماء والقدرة على هزيمة "الأعداء الوهميين". وما انتشار الإسلاموفوبيا في أكثر المجتمعات تعليماً، والاستقطاب الإثني والطائفي الذي لا يزال يمزق منطقتنا، سوى أمثلة على ذلك.

إن قراءة هذه المتغيرات في سياسات الأحزاب اليمينية، باتت تتطلب تحديثًا متواصلًا، يكشف عن مبررات أخرى تقف وراء نمو الكتل التصويتية لها، غير تدهور الوضع الاقتصادي وتدني مستويات الوعي، ومن بينها نجاح براغماتية وشعبوية هذه القوى بتوطين الهويات الفرعية في الوعي اليومي للناس، وشدّهم لقضايا هامشية لا يربطها رابط بحياتهم، وصرف انتباههم عن غياب الخدمات والجوع والتخلف وهدر الأموال في العسكرة والفساد، وتمجيد سلبيتهم وعزوفهم عن المساهمة في الكفاح المطلبي والسياسي.

ولما كان اليسار، القوة الوحيدة القادرة على مواجهة هذا اليمين والمؤهلة لدحره، فإن نجاحه مرتبط بقدرته على إنجاز هذه القراءة بدقة، والعمل في ضوئها على تغيير الوعي اليومي، من خلال نشر ثقافة تربط مصلحة الفرد بالصالح العام، ثقافة إنسانية بديلة تطمئن نفوس الناس وتمحو أفكار التعصب واليأس والكراهية.

وإذا كانت مواجهة اليمين تضاعف من حاجة اليسار لتحالفات واسعة مع كل المدافعين عن الترابط المكين بين الحريات والعدالة الاجتماعية والطابع الديمقراطي للاقتصاد، فإن أية نظرة تستشرف المستقبل في ظل المتغيرات البنيوية في صفوف اليمين، تشترط توسيع هذه التحالفات لتضم كل المدافعين عن الحرية والمعادين للفاشية، مكشوفة كانت أو مضمرة، كالنقابات العمالية والمنظمات النسوية وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان وحماة البيئة والحركات الاجتماعية ذات الأهداف المحدودة أو المؤقتة وأنصار السلم وغيرهم، وعلى ضوء شعارات تعبوية واضحة، فليس كافيًا أن أكون صادقًا ونزيهًا و كفوءًا، بل يجب أن يدرك الناخبون خطر اليمين، وأن يثقوا بي كبديل فاعل على إحداث التحول الاجتماعي.

إن هزيمة اليمين تشترط مشروعًا نضاليًا مشتركًا، يولد في ساحات الكفاح ويقدم بديلاً حقيقيًا للمعاناة، ويستفيد من الظروف السياسية والقانونية لمزيد من التنظيم والنمو وتغيير هياكل الثروة وأنظمة توزيعها وتبني فكرة المواطنة السياسية وحماية المجتمع المدني. وإذا كان للعولمة من منفعة ما، فإنها وفرت بعض التشابه في عناوين المواجهة، اتسعت بسببها دائرة التحالفات على الصعيد الوطني والإقليمي والأممي.

عرض مقالات: