إذا ما نظرنا إلى الفن مجردا ً من سمته الذاتية وتعلقنا بسمة انتمائه إلى الإبداع بشكل عام، نجده صورة معبّرة عن ظواهر متعددة منظور إليها من خلال رؤية بصرية مختلفة . وهذا الاختلاف إنما ينمّي الاختصاص والسمة الذاتية ، وفي الوقت نفسه يُعطي وظيفة مضافة أمام رسالته في الحياة . ولعل التصوير الفوتوغرافي واحد من تلك الأجناس الفنية الإبداعية التي عبّرت من موقعها المألوف والمتعارف ثم المتداول في الوظيفة الاجتماعية ، في كوّنه حرفة ذات مسحة فنية تحاول أن تؤرخن الواقعة والشكل، باعتبار الكاميرا ذات مساس بحاجة الإنسان اليومية في أداء وظائفه. لكنها في الجانب الآخر هو محاولة لإنتاج الواقع شأنه شأن الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والشعر والسرد، له ما لها مجتمعة ومندمجة في الوظيفة وأداءها ذاتياً وموضوعاً . فالصورة هنا ومن خلال عين الكاميرا لا يُنظر إليها بوصفها مجرد إعادة إنتاج لواقعة أو حادثة ، ولكن كونها مجموعة عمليات بناء وتركيب ، فهي ليست نسحة مكررة، بل نسخة تُعيد إنتاج الواقع بشكل إبداعي محفوف بالرؤى المتطلعة. وفي هذا لابد من ذكر الكاميرا تنطلق من حساسية ذاتها من جهة ، ومن حساسية عين الفنان من جهة أخرى . هاتان السمتان تتوفران على حقلهما المعرفي والوظيفي ، كما هي الفنون والأجناس الأخرى . بمعنى أن النظرة إلى الصورة اختلفت تماما ً بسبب ارتباطها بالمعرفة الموجِهة والموَجَهة .أي أنها تُعطي وتأخذ ما يلزمها من الضرورات لتحقيق كينونتها وكينونة منتِجها .
ان الصورة قادرة على الإنتاج بدرجات كبيرة. باعتماد المصوّر النظر إلى المشهد الحياتي أو المقتطع اليومي ، لا لكي يؤرخ تفاصيله فحسب، وإنما ينظر إليه ابتداء من أجل فحصه والتدقيق في خصائصه الظاهرة أو الخفية ، لغرض الوصول إلى ما هو مخبأ في داخله وصولاً إلى اللامرئي فيه. ولا يتم هذا إلا عبر دراسة التفاصيل والأجزاء التي هي عبارة عن إشارات ممكنة لعكس ممكنات أخرى غير محسوسة باعتبارها غير مرئية. وهنا يكمن تقارب وظائف الفن سواء أكان هذا فناً تشكيلياً أو صورة فوتوغرافية شعراً أو سرداً. فالصورة هنا هي المتن الفني الباحث عن ما هو داخل المشهد لتصبح الصورة لغة أخرى لا تبتعد في وظيفتها عن اللغة التي تُكتب بها الآداب والفنون .هي كالشعر لها مسبباتها وممارساتها وشكلها الفني الخالص . لأنها أساساً تعتمد جدلية الوجود في اختيار اللقطة أو المشهد، أي النظر إليها بصيغتها المتحركة وقوانين منظوماتها الفكرية. هذه الجدلية تتيح للمصوّر أن يُقدم وجوده الداخلي عن طريق الوجود الخارجي. وبهذا يمكننا النظر إلى الصورة الفوتوغرافية على أنها صورة لمشهد شعري يُعبّر عن الواقعة. فلو اختير فنانين من كلا الجنسين ليعبّرا عن ذات المشهد ، لرأينا أن ما نشاهده أو نقرأه هو صورة تمثلت المشهد بطريقتين مختزلتين ومختلفتين في البنية، ومتطابقتين في نتائج التعبير. وفي هذا لا يشترط وجودهما صورة الواقع كما هو ، بقدر ما نشاهد نوعاً من الرؤى للحادثة أو الواقعة أو المشهد. من هنا نجد أن الكتابة تتحقق داخل الشاعـر، والرؤية تتم داخل المصوّر أيضا ً ـ كما ذكر ( سلفرمان ) بحيث تتوحد النظرة إلى كلا الناتجين على وفق طبيعة التعبير وفيوضاته على الورق أو عبر الصورة الفوتوغرافية ـــ الكارت ـــ .
إن الصورة الفوتوغرافية منذ ظهورها في بدايات القرن التاسع عشر لعبت دوراً مهماً في المجال الاجتماعي . وقد اشتملت على أدوار خاصة بالفن والعالم والتسويق والقانون والذاكرة الشخصية. وفي هذا الخصوص نلاحظ أن (ميرلوبونتي) قد تبنى أفكار ( لاكان ) حول اللاشعور بوصفه يشبه في بنيته اللغة . وأن ما يُميّز عين الفنان هو أنها عين تدرب نفسها دائماً على اكتساب أسلوب خاص في الرؤية أو منظور خاص لديه في رؤية العالم. من هذا يمكن النظر إلى شيئية (آلان روب جرييه) باعتبارها تقترب كثيراً من بؤرة الصورة الفوتوغرافية وهي نوع من النزوع تسير في اتجاه نزع الإنسانية عن الفن. والاهتمام بعالم الحواس، إذ يتم من خلال هذه الممارسة رصد المؤثرات، وذلك بتكثيف وصف الأشياء لذاتها بالسرد البصري أي الاستعانة بعين الكاميرا. لذا يمكن النظر إلى نوع التعبير سواء كان باللغة باعتبارها وسيط توصيل أو الكاميرا كذلك عبر ما هو منتَج من أثر، سواء كان صورة أو قصيدة أو مقطعاً نثرياً أو سرداً، في كوّنها قادرة على ضخ المعاني من زوايا مختلفة وفقاً لخاصياتها الذاتية، باعتبارها أدوات تعبير قادرة على الرصد والتمثل والبث . فالفنان الفوتوغرافي يمتلك حساً شعرياً، ونقصد هنا الفنان الذي يدرك خطورة الصورة ووظيفتها . ولعل المصور الآخر الذي يسوّق صورته، بمعنى يفعّل الكاميرا من أجل العيش وذلك بالتقاط صور الآخرين، هو بالذات يتعامل مع المختلف والمختلط المتنوع. وهذا الاختلاط يولد نوعاً من التجربة في مستقبل الأيام، إذ تتحول المهنة من حرفة للتكسب إلى أخرى فنية . فالابتداء قد يقود إلى المعرفة الكلية المحاذية لوظيفة الكاميرا. فلو تصفحنا بدايات الفنانين في هذا الشأن، لوجدنا أنها بديات حرفية ـ مهنية خالصة، غير أنها قادت نحو الحرفة الإبداعية، بسبب التراكم في المشهد وفي إنتاج الصورة. ولنأخذ الفنان (عبد علي مناحي وناصر عساف) مثلاً، فقد نشئا مع الكاميرا المتنقلة والبوكس، تلك التي تمتلك عالماً سريا ً مدهشا ً ابتداء من جلوس الشخص أمام عدستها مرورا ً بتحريك غطاء العدسة، وتدويره أمام الشخص، ثم إدخال الكف في اسطوانة القماش الرخوة، والنظر عبر دائرة مثبتة في أعلى الصندوق والنظرات التي يوجهها المصوّر عفوياً إلى الشخص، وآخرها سحب المجر وإظهار الصورة المبتلة وإلصاقها على أوجه الصندوق لتجف، حتى إجراء عملية القص والتسليم. هذه الحيثيات الإجرائية ما نعني بها إحداث التراكم في فعل التصوير. يُضاف إليها تأثير فعل التجوال بكاميرا محمولة. هذه الإجراءات الوظيفية بأسرارها وغناها من خلال التجدد والتنوّع هي التي قادت (مناحي وعساف) وسواهما إلى احتراف وظيفة الكاميرا في التعبير على أساس ما تعقده بينهما وبين العالم من صلة معرفية إنتاجية. فقد توسعت الرؤية للكاميرا ووظيفتها، في الوقت نفسه نمت رؤية الفنان واتسعت وأصبح ليس الآن، بل منذ عدد من السنين وجود مصورين ذوي حرفة معرفية كالمصورين (ميري وأرشاك) على سبيل المثال لا الحصر. وهذا الحراك أنتج على صعيد تاريخ الصورة وفعل الكاميرا العراقية مجموعة كبيرة من الفنانين ، ابتداء من الفنان (جاسم الزبيدي) وصولاً إلى (فؤاد شاكر).