اخر الاخبار

قلة هم الفنانون الذين تركوا بصمة عميقة في عالم الفنون كما فعل الرسام الهولندي فنسنت فان كوخ (1853 - 1890)، سواء في الفن التشكيلي أو في السينما. وإذا كان هناك فنان يمكن مقارنته به في هذا السياق، فقد يكون موزارت، إذ نادرًا ما جُسِّدت حياة فنان وسيرته الذاتية على الشاشة بالعمق والتعدد ذاتهما كما حدث مع فان كوخ. في أكتوبر 2017، أُنتج فيلم أنيميشن بأسلوب بصري متفرّد حول فان كوخ، ليؤكد استمرار الاهتمام بشخصيته وأعماله في السينما. هذا الشغف السينمائي لم يكن وليد اللحظة، بل هو امتداد لعقود من التناول الإبداعي لسيرته الحافلة بالصراع والمعاناة. خلال فترة اهتمامي بالحركة التعبيرية في المسرح، كنت مفتونًا بلوحات فان كوخ، ليس فقط لجمالها الفريد وإنما أيضًا لعلاقتها الوثيقة بحياته الحافلة بالتحديات، من الفقر المدقع إلى المعاناة النفسية التي شكّلت جزءًا من روحه الإبداعية. كانت حياته وأعماله تثير لدي تساؤلات عديدة حول العلاقة بين العبقرية والمعاناة، وبين العزلة والإبداع.

أول فيلم شاهدته عن فان كوخ كان الأحلام للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا، حيث يظهر كشخصية داخل إحدى لوحاته الأشهر (حقول القمح والغربان). في هذا الفيلم، يتحوّل المشهد السينمائي من لوحة ساكنة إلى عالم لوني حي، حيث تتماهى الطبيعة والبشر في رؤيا فنية أشبه بحلم داخل اللوحة. إنه بحقّ فيلم يجسّد التعبيرية في السينما، بلغة فنية خارقة للمألوف، تتجاوز السرد التقليدي لتغمر المشاهد في تجربة بصرية وشعورية فريدة. أما فيلم الأنيميشن محب فان كوخ (Loving Vincent)، الذي لا يزال يحظى باهتمام عالمي رغم مرور قرابة عقد على إنتاجه، فقد قدّم مقاربة بصرية غير مسبوقة لحياة فان كوخ، باستخدام تقنيات رسم يدوية تجعل كل إطار في الفيلم يبدو كلوحة مرسومة بريشته. هذه التجربة السينمائية الفريدة تماهت مع أسلوب فان كوخ نفسه، حيث تجلّت ضربات الفرشاة السريعة والألوان المتوهجة في كل مشهد، مما جعل الفيلم تحية بصرية حية لروح الفنان.

أما آخر فيلم تناول حياة فان كوخ فهو عند بوابة الخلود (At Eternity’s Gate)، الذي أعاد تسليط الضوء على هذه الشخصية الاستثنائية من زاوية مختلفة. ما يميّز هذا الفيلم أن مخرجه، جوليان شنابل، ليس فقط مخرجًا سينمائيًا، بل أيضًا فنان تشكيلي، مما مكّنه من تقديم رؤية تعبيرية عميقة تتجاوز السرد التقليدي للسيرة الذاتية، وتسعى إلى الغوص في أعماق العالم البصري لفان كوخ. يُعرف شنابل بأسلوبه الفني الفريد ولوحاته الكبيرة التي تتماهى في بعض جوانبها مع منهج فان كوخ، مما جعله الشخص الأمثل لرواية قصته بأسلوب بصري حميمي.

على الرغم من أن عند بوابة الخلود لا يختلف كثيرًا عن غيره من حيث السرد الأساسي لحياة فان كوخ، إلا أن أهميته تكمن في تصويره للحظة قراره الحاسمة بمغادرة وطنه هولندا، بحثًا عن بيئة أكثر تحررًا لإبداعه. ينتقل إلى مدينة آرل في بروفانس الفرنسية، آملًا متفائلاً بضوء الشمس الساطع والألوان الطبيعية المذهلة مصدر إلهام جديد يتيح له تطوير أسلوبه الفني بحرية أكبر.

لكن هذه الرحلة لم تكن سهلة، إذ واجه فان كوخ صراعات نفسية حادة وأزمات فكرية حول الدين والفن والعقل، مما اضطره إلى دخول مصحة عقلية. في تلك الفترة، كان بول غوغان، الفنان التعبيري الشهير، رفيقه، وكان مقتنعًا بفكرة إنشاء مجتمع فني مستقل يجمع فنانين يدعمون بعضهم البعض. غير أن فان كوخ، بطبيعته المتفرّدة، ظل خارج هذا الإطار الجماعي، ولم تجد أعماله اهتمامًا في زمنه، مما زاد من عزلته وتفاقم أزمته النفسية.

المأساة الكبرى في حياة فان كوخ كانت الفقر والتجاهل، حتى أن شقيقه ثيو كان يكافح لدعمه ماديًا لكنه لم يتمكن من تغيير مصيره. والمفارقة أن أحد أعماله، وهو بورتريه طبيبه المعالج في المصحة النفسية، بيع عام 1990 بمبلغ 82 مليون دولار، أي ما يعادل اليوم قرابة مليار دولار بأسعار السوق المعاصرة. ما يجعل بوابة الخلود مختلفًا عن غيره من الأفلام التي تناولت حياة فان كوخ هو تركيزه على رؤيته الجمالية والفنية للعالم، بدلًا من مجرد سرد الأحداث التي مر بها. يقول فان كوخ في الفيلم : الطبيعة التي أراها ليست هي ذاتها التي يراها الآخرون. فأنا لا أرسمها كما تبدو، بل كما أفكر بها."

هذه العبارة تلخص جوهر المدرسة التعبيرية، التي لم تكن مجرد أسلوب فني، بل رؤية فلسفية تتجاوز الظاهر إلى التعبير عن جوهر الذات والعالم.

هذا النهج ذاته وظّفه الكاتب المسرحي أوغست ستريندبرغ في أعماله المسرحية التعبيرية، مثل "لعبة حلم" و"سوناتا الشبح" و"الطريق إلى دمشق"، حيث بلغت التعبيرية ذروتها في "لعبة حلم"، إذ يتفكك الواقع ليصبح المشهد المسرحي انعكاسًا لعوالم نفسية داخلية، في سياق أسطوري تمتزج فيه الرموز والدلالات بالواقع. وهي من أكثر مسرحيات ستريندبرغ تمثيلًا، وكان حلم أنتونين آرتو إخراجها، ثم توالى كبار المخرجين على تقديمها، من بينهم إنغمار بيرغمان وروبرت ويلسون وروبرت ليباج.

وهذا ما جسّده أيضًا الشاعر الكردي الكبير عبدالله كوران في بعض أشعاره، متجاوزًا المظهر الخارجي للأشياء ليعبّر عن جوهرها العاطفي والروحي، متماهياً مع جوهر التعبيرية في سعيها إلى الكشف عن الحقيقة الأعمق الكامنة خلف المشهد الظاهري.

عبر هذا الطرح السينمائي الجديد، يظل فان كوخ شخصية إبداعية ملهمة، لا يقتصر تأثيرها على الفن التشكيلي حسب، بل يمتد إلى عالم السينما، حيث يُعاد اكتشافه جيلاً بعد جيل برؤى جديدة. هذه الاستمرارية تؤكد أن عبقريته ليست مجرد لحظة في التاريخ، بل نبع لا ينضب للإلهام والإبداع، يتجلى في كل وسيط فني يقترب من روحه القلقة ورؤيته المتفرّدة للعالم.

عرض مقالات: