اخر الاخبار

تتجسّد روح المفارقة وبعض تجلّيات الفانتازيا في مجموعة (بأي صيف ستلّمين المطر؟) للشاعر (غسان حسن محد) ومن خلال هذه المفارقة وأسئلتها يسعى الشاعر إلى إدانة القبح والكشف عن المسكوت عنه في واقع ملتبس، ومحتدم بالوجع والحروب والإغتراب وأفول القيم، ويتجلّى نسق المفارقة وتداعياتها بدءاً من سيميائية العنوان الذي جاء على شكل تساؤل شعري لكنّه ينطوي على فكرة موحية وتجلّ فنيّ قائم على السؤال الاستفهامي الذي يتكرّر كثيراً بين تضاعيف ونصوص المجموعة برّمتها، والعنوان يوحي بوجود المفارقة القائمة على التناقض بين الفعل الذي يحدث في غير أوانه، ويأتي الجواب متأخّراً ولا قيمة له، والتناقض أساساً قائم بين ثنائية الصيف والمطر وعبر هذا فإن الشاعر يستثمر فكرة الثنائيات المتضادّة ليعمّق من اسئلته التي تتخذ سمة الأسئلة الوجودية والإنسانية وأسئلة القلق والبحث عن الصورة والمثال في واقع قلق ومنقوص.

وتأتي نزعة ادانة القبح متجسّدة في إدانة الحروب والخراب والفساد السياسي، وتتعرّض لإرادة الزيف والخداع، ولا يقتصر الخطاب الشعري في هذه المجموعة على هذه الثيمات والمضامين بل يتضمّن رؤى وفضاءات أخرى ترتبط بمواقف كثيرة في الحياة والمرأة والتأمل والبحث عن الذات والمثال، كما اتضحت قدرة الشاعر على التعاطي مع النصّ الطويل نسبياً والقصير المختزل والمكثّف الذي يصل إلى اشتراطات النص (الهايكوي) وقصيدة الومضة السريعة، كما نجد عناية دقيقة وقصدية تعبيريّة في انتقاء العناوين وتعميق دلالتها الإشارية والإيحائية، وقد وظف الشاعر لغة شعرية محلّقة ومستقطبة لوجدان وذائقة المتلقي من خلال تعميق النزعة، أو الإشتغال الانزياحي، وترحيل المعنى من بعده (الإيقوني) والمعجمي باتجاه الانفتاح على تعدّد المعنى والطاقة التأويلية والترميز والاحالة.

بدت نصوص المجموعة على جانب من العمق والرصانة ولم تنزلق إلى النثرية والسردية الفجّة والاسراف الوصفي أو العاطفي، فكل مفردة أو لفظ او جملة ترتكز على أداء سياقي منتج ومعبّر ولذا جاءت النصوص بعيدة من السطحية أو التأمل الانطباعي العابر، وتضمّنت كثيراً من المضامين والثيمات والأسئلة التي لا تكتفي بنسق التساؤل المجرّد فبعض السؤال جواب كما يقال، وعلى وفق هذه المعطيات أصبحت النصوص بعيدة بطبيعة الحال عن المباشرة التقريرية، والوصف المجرّد، في مدوّنات تثير المتلقي باستفزازها وقدرتها على تأسيس رؤية مغايرة، ولا تنعدم النصوص من خاصيّة المتعة الجمالية المرتكزة على انتقاء الألفاظ وصياغة المعنى وتواتر الانثيالات والصور الشعرية المعبرّة والشفيفة، كما لابُدَّ من الإشارة إلى أن المجموعة انطوت على التنوّع في الموضوعات والرؤى والتوّجهات الإنسانية والوجوديّة والجمالية والوطنية والسايكولوجيّة.

ففي نص موسوم بـ(خرائط وأمجاد) نلمس الإشتغال الانزياحي في توظيف لغة شعريّة دالة ومنتجة للتجسيد الصوري وعمق الدلالات.

أقبض على جمرتك.. / فالماء يبحث عما يطفئ اللّهيب...

رجل يقف على حافة البحر / في عنقه حجر .. يحلم بالقاع

وسمكة تنظر إلى النجوم / تسعى لقطف الضياء..!!

كلاهما قصّة البحر / فكم ذهول يحتاج أهل الأرض

ليفيقوا من سكرتهم؟! / هذه علامات المرور

شواهد على اختلال الموازين / الأصفر يزدهر على خدود الناس

ولا يُنضج الثمار / الأحمر .. يسيل على لوحة الوجود

يسخر من اخضر ركب القطار / ولم يعثر على ربيع

حينما غيّرت السمكة مساراتها..! / وغدا الوصول إلى محطّة الأمان

محض حلم لا يهبط من الرأس / يا صاحبي..

لم تضع النقطة آخر السطر؟ / ولم تبتدئ الحكاية أوّلهُ.. جئت بالنهايات دفعة واحدة / كنت مولعاً بالخرائط

لذا أكلت التفاحة من خاصرتها... (المجموعة: 7- 8).

اجتزأنا من النص هذه المساحة لكي نقف على تحولاته وطبيعة اللغة الانزياحية المهيمنة فيه، وتوافر روح المفارقة والترميز بين هذه التحولات، ويبدأ النص وكأنه ينطلق من روح الوصايا والدعوة إلى التحمل إشارة إلى تعسّف وضراوة الواقع الذي يكشف عن تناقضاته (اقبض على جمرتك..)، ثم يتوغل النص في تواتر صوري للكشف عن مساحات أخرى للتناقض والأسئلة الوجودية، وتجسيد منطق المفارقة المهيمن على المشهد، والتوكيد على المحاولة لإيجاد الذات عنوة (وسمكة تنظر إلى النجوم، تسعى لقطف الضياء!!).

ويقدّم توكيداً لهذا الإختلال الوجودي "هذه علامات المرور.. شواهد على اختلال الموازين..."، ويمكن الاستدلال على توظيف اللّون ودلالاته للكشف عن هذه التناقضات، "الأصفر يزدهر على خدود الناس..."، ويوظف الشاعر دلالة الألوان الأصفر والأحمر والاخضر للإشارة إلى البعد الإحالي والترميزي وكشف التضادات في (لوحة الوجود) عبر هذه الصور التي تكشف عن أسئلة الإنسان الوجودية، وسعيه الضاري لاقتطاف الثمار البعيدة والعصيّة في أحيان أخرى. 

عرض مقالات: